قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
عاجل
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

من سرق المصحف؟ !


في مصر، كل الطرق تُفضي إلى متاهة ، وكل الأفكار تُنتِج عبثا ، وكل الآمال تذهب سُدى، أدراج الرياح .
هذا ليس مقالًا في السياسة ، وحتمًا ليس في الاقتصاد ، ولكنه قراءة في المشهد العام ، دون تحيز، وبلا مواربة ، وعارٍ من الأيدلوجيات.

هذا مقال ، لستُ آملًا أن ينتهي إلي شيء ، ربما كما بدأ ، ولكنه إن شئت فقل إنه قبس من كلمات الشاعر صلاح عبدالصبور حين أصدر ديوانه الأخير وقال فيه : إن هذا الديوان ليس فيه جديد ولكنه إجترار لما مضى.

وكيف لنا أن نقولَ جديدًا ونحن -جميعًا- نرى مستقبلنا وراءنا ، إما حالمين بزمن الخلافة ، أو ناظرين بفخر إلى عهدنا الملكي الذي مضى عليه أكثر من ستين عامًا ، أو واقفين مشدوهين أمام حقبة الستينيات، بينما الحاضر معطًل في إنتظار من يدفعه للأمام ، والمستقبل مجهول تتجاذبه الظنون والآمال ، والكل في إنتظار مخلص يأتي محمولًا على أكتاف رؤانا المتعثرة الخطى على طريقنا الواعر!

لست من القائلين بالتعميم ، وهو أن نطلق أحكامًا جزافًا على شعب بأكلمه ، وعلى حقبة زمنيه برمتها ، لأني أؤمن دائمًا بالإختلاف والتنوع ، وأؤمن كذلك أن كل حدث هو ابن زمانه حتى لو أستطعنا أن نستنتج قاعدة ما ، فمن المؤكد أنه تشذ عنها أفكارًا كثيرة وطرق شتى . ولكن وسط هذا الزخم الهائل من التنوع ومن الإختلاف ، فإنه يمكننا أن نرى خيطًا رفيعًا رابطا" بين كل هؤلاء وهو ما دفعني هنا للكتابة.

في ظني ، أنه ليس لدينا في مصر مصدر واحد يمكن أن نستاق منه معلومة دقيقة ، أو نعرض عليه خبرا" لنستبين صحته ، ليس لدينا آلية ما لتفنيد الشائعات ، وتمييز الرأي من المعلومة ، ليس لدينا جهة لقياس الرأي العام على نحو يثق فيه الناسُ جميعًا ، ليس لدينا ثقة في مصداقية ما نقرأ وما نسمع وما يقال ، رغم كل هذا الجهد الذي تبذله مؤسسات محترمه وأفراد كُثر في مصر، ورغم الأرقام والإحصائيات والبيانات ، لكنها كلها في واد ونحن في واد آخر ، فلا أيسر من أن نهيلَ عليها جميعها التراب أو نرفعها إلى درجة القداسة.

في مصر ، ليس ثمة جديد يمكن أن يقال ، لأن ما تقوله دائمًا يعبر عنك ، ويصنفك ، قد تُفني عمرك كله في الدفاع عنه ، وليس في البناء عليه .فأنت إما منتصر أو مغلوب، ولكنك دائمًا وأبدًا في محلك ، لا تكاد تبرحه.
في مصر ، نتكلم كثيرًا ، ربما أكثر مما نسمع ومما نقرأ ومما نشاهد ، لذا أنتشرت ثقافة الوهم ، وأنتشت الأساطير ، وراجت سلعة الكذب.

في مصر ، أصبحت دوائر النقاش ساحات مصارعة رومانيه ، قد تُفرضْ عليك دون إرادتك ، وأنت فيها إما قاتل أو مقتول ، فلاحوار ولا تواصل ولا أمل في التغير مع مبدأ (هذا ماوجدنا عليه آبائنا) !

في مقال الكاتب الصحفي محمد أبو الغيط ، المنشور في جريدة "المصري اليوم" بتاريخ 28 سبتمبر 2016 ، إستعان الرجل بإحصائيات صدرت عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ( بحث الدخل والإنفاق والإستهلاك) ، و( الكتاب الإحصائي السنوي) لكشف الكثير من زيف العبارات والدعاوى الباطلة التي يستخدمها الناس في حياتهم اليوميه ، وخاصة تلك المتعلقة بالأحوال الأقتصاديه لدى المصريين وكذلك مستوى الترف ، والبطالة ، والبنية الأساسية ، والتعليم ، وغيرهم . هذه الأرقام والإحصائيات بدت كاشفة لما وصل إليه الحال ، وبدت كاشفة أكثر لأوهام الكثير من الناس ذوي العقول المتحيزة ضد الفهم والمنحازة للوهم ، عقول تستسيغ الإشاعة ويحفزها الصراخ على أن تصرخ أكثر وأكثر.

في مصر ، ليس هناك لونين فقط كما يتوهم البعض ، أبيض وأسود ، بل هناك كل الدرجات الرمادية الواقعة بين هاذين اللونين بكافة تفاصيلها وبكثافة عالية.

الطبقة الوسطى التي يتحدث الناس عنها أنها إختفت ، هي في الحقيقة لم تختف ، بل تفتتت إلى طبقات عديدة ، تمامًا كدرجات اللون الرمادية . السفهاء فقط هم الذين ينساقون وراء الظاهرة الكذوبة ، ويظنون أن الناس إما أغنياء أو فقراء . إما متعلمين أو جهلاء ، إما مع أو ضد ، ثنائية الأبيض والأسود هذه تلاحقنا في أفكارنا وآرائنا وتصوراتنا وقراراتنا ، وتعطلنا عن أن نرى أنفسنا بصدق ونفكر برويه ونرى بوضوح كل ألواننا على أختلاف درجاتها.

في مصر ، يرجع الكثير من الناس أسباب تأخرنا إلى كل شيء عدا أنفسهم ، فالمتحدث دائمًا بريء ، لم يقترف خطيئة ولم يرتكب إثمًا ، أو على حد تعبير الشاعر أمل دنقل ( فلتبحثوا عمن سيدلي باعتراف الآخرين ) ! فالأخرون دائمًا هم أسباب الأزمة. أما نحن ، فالأبرياء دائمًا ، والضحايا أبدًا.

ذكرت كتب التراث رواية شهيرة عن "مالك بن دينار" وهو من أئمة التابعين وأحد علماء البصره المعروفين، بأنه خطب في الناس ذات يوم خطبة طويلة ، حدثهم فيها عن الآخرة وأهوال القيامة ، وتأثر الناس لحديثه تأثرًا بالغًا ، فبكوا حتى سمع لهم نحيبًا ، وكان يضع إلى جواره مصحفًا ، فلما فرغ من خطبته إلتفت اليه فلم يجده مكانه ، فقال مقولته الشهيرة :-أيها الناس: كلكم يبكي فمن سرق المصحف ؟!
في مصر كلنا مهزومون ... وكلنا أسباب الهزيمة.