الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

من سرق المصحف؟ !


في مصر، كل الطرق تُفضي إلى متاهة ، وكل الأفكار تُنتِج عبثا ، وكل الآمال تذهب سُدى، أدراج الرياح .
هذا ليس مقالًا في السياسة ، وحتمًا ليس في الاقتصاد ، ولكنه قراءة في المشهد العام ، دون تحيز، وبلا مواربة ، وعارٍ من الأيدلوجيات.

هذا مقال ، لستُ آملًا أن ينتهي إلي شيء ، ربما كما بدأ ، ولكنه إن شئت فقل إنه قبس من كلمات الشاعر صلاح عبدالصبور حين أصدر ديوانه الأخير وقال فيه : إن هذا الديوان ليس فيه جديد ولكنه إجترار لما مضى.

وكيف لنا أن نقولَ جديدًا ونحن -جميعًا- نرى مستقبلنا وراءنا ، إما حالمين بزمن الخلافة ، أو ناظرين بفخر إلى عهدنا الملكي الذي مضى عليه أكثر من ستين عامًا ، أو واقفين مشدوهين أمام حقبة الستينيات، بينما الحاضر معطًل في إنتظار من يدفعه للأمام ، والمستقبل مجهول تتجاذبه الظنون والآمال ، والكل في إنتظار مخلص يأتي محمولًا على أكتاف رؤانا المتعثرة الخطى على طريقنا الواعر!

لست من القائلين بالتعميم ، وهو أن نطلق أحكامًا جزافًا على شعب بأكلمه ، وعلى حقبة زمنيه برمتها ، لأني أؤمن دائمًا بالإختلاف والتنوع ، وأؤمن كذلك أن كل حدث هو ابن زمانه حتى لو أستطعنا أن نستنتج قاعدة ما ، فمن المؤكد أنه تشذ عنها أفكارًا كثيرة وطرق شتى . ولكن وسط هذا الزخم الهائل من التنوع ومن الإختلاف ، فإنه يمكننا أن نرى خيطًا رفيعًا رابطا" بين كل هؤلاء وهو ما دفعني هنا للكتابة.

في ظني ، أنه ليس لدينا في مصر مصدر واحد يمكن أن نستاق منه معلومة دقيقة ، أو نعرض عليه خبرا" لنستبين صحته ، ليس لدينا آلية ما لتفنيد الشائعات ، وتمييز الرأي من المعلومة ، ليس لدينا جهة لقياس الرأي العام على نحو يثق فيه الناسُ جميعًا ، ليس لدينا ثقة في مصداقية ما نقرأ وما نسمع وما يقال ، رغم كل هذا الجهد الذي تبذله مؤسسات محترمه وأفراد كُثر في مصر، ورغم الأرقام والإحصائيات والبيانات ، لكنها كلها في واد ونحن في واد آخر ، فلا أيسر من أن نهيلَ عليها جميعها التراب أو نرفعها إلى درجة القداسة.

في مصر ، ليس ثمة جديد يمكن أن يقال ، لأن ما تقوله دائمًا يعبر عنك ، ويصنفك ، قد تُفني عمرك كله في الدفاع عنه ، وليس في البناء عليه .فأنت إما منتصر أو مغلوب، ولكنك دائمًا وأبدًا في محلك ، لا تكاد تبرحه.
في مصر ، نتكلم كثيرًا ، ربما أكثر مما نسمع ومما نقرأ ومما نشاهد ، لذا أنتشرت ثقافة الوهم ، وأنتشت الأساطير ، وراجت سلعة الكذب.

في مصر ، أصبحت دوائر النقاش ساحات مصارعة رومانيه ، قد تُفرضْ عليك دون إرادتك ، وأنت فيها إما قاتل أو مقتول ، فلاحوار ولا تواصل ولا أمل في التغير مع مبدأ (هذا ماوجدنا عليه آبائنا) !

في مقال الكاتب الصحفي محمد أبو الغيط ، المنشور في جريدة "المصري اليوم" بتاريخ 28 سبتمبر 2016 ، إستعان الرجل بإحصائيات صدرت عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ( بحث الدخل والإنفاق والإستهلاك) ، و( الكتاب الإحصائي السنوي) لكشف الكثير من زيف العبارات والدعاوى الباطلة التي يستخدمها الناس في حياتهم اليوميه ، وخاصة تلك المتعلقة بالأحوال الأقتصاديه لدى المصريين وكذلك مستوى الترف ، والبطالة ، والبنية الأساسية ، والتعليم ، وغيرهم . هذه الأرقام والإحصائيات بدت كاشفة لما وصل إليه الحال ، وبدت كاشفة أكثر لأوهام الكثير من الناس ذوي العقول المتحيزة ضد الفهم والمنحازة للوهم ، عقول تستسيغ الإشاعة ويحفزها الصراخ على أن تصرخ أكثر وأكثر.

في مصر ، ليس هناك لونين فقط كما يتوهم البعض ، أبيض وأسود ، بل هناك كل الدرجات الرمادية الواقعة بين هاذين اللونين بكافة تفاصيلها وبكثافة عالية.

الطبقة الوسطى التي يتحدث الناس عنها أنها إختفت ، هي في الحقيقة لم تختف ، بل تفتتت إلى طبقات عديدة ، تمامًا كدرجات اللون الرمادية . السفهاء فقط هم الذين ينساقون وراء الظاهرة الكذوبة ، ويظنون أن الناس إما أغنياء أو فقراء . إما متعلمين أو جهلاء ، إما مع أو ضد ، ثنائية الأبيض والأسود هذه تلاحقنا في أفكارنا وآرائنا وتصوراتنا وقراراتنا ، وتعطلنا عن أن نرى أنفسنا بصدق ونفكر برويه ونرى بوضوح كل ألواننا على أختلاف درجاتها.

في مصر ، يرجع الكثير من الناس أسباب تأخرنا إلى كل شيء عدا أنفسهم ، فالمتحدث دائمًا بريء ، لم يقترف خطيئة ولم يرتكب إثمًا ، أو على حد تعبير الشاعر أمل دنقل ( فلتبحثوا عمن سيدلي باعتراف الآخرين ) ! فالأخرون دائمًا هم أسباب الأزمة. أما نحن ، فالأبرياء دائمًا ، والضحايا أبدًا.

ذكرت كتب التراث رواية شهيرة عن "مالك بن دينار" وهو من أئمة التابعين وأحد علماء البصره المعروفين، بأنه خطب في الناس ذات يوم خطبة طويلة ، حدثهم فيها عن الآخرة وأهوال القيامة ، وتأثر الناس لحديثه تأثرًا بالغًا ، فبكوا حتى سمع لهم نحيبًا ، وكان يضع إلى جواره مصحفًا ، فلما فرغ من خطبته إلتفت اليه فلم يجده مكانه ، فقال مقولته الشهيرة :-أيها الناس: كلكم يبكي فمن سرق المصحف ؟!
في مصر كلنا مهزومون ... وكلنا أسباب الهزيمة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط