الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

رسالة مغلقة


كان واثقًا بأنها لن تتركه وحيدًا أبدًا، ليس لأنها فقط تحبه، ولكن لأنه يعرفها جيدًا كما يعرف نفسه، ويعرف أنها لن تقوى على فراقه مهما كانت الأسباب، ولن تستطيع كذلك أن تتحمل بُعده وأنها عندما تغضب منه تُعرِضُ عنه فقط بلسانها، تجافيه.. نعم، ولكن لساعات قليلة لتعاود الحديث معه بعد حين وكأن شيئًا بينهما لم يكن.

لكنه تلك المرة شعر أن حدثًا كبيرًا يلوح في الأفق، بدا وكأنه دقات ساعة حائط رتيبة لا يستطيع الهروب منها، أو زخات مطر تضرب زجاج الشرفة في إيقاع صاخب ينذر بشيء خطير، شعر باختناق شديد وخوف، دفعه القلق إلى مغادرة المكان الذي بقيت هي فيه، كان يهرب منها رغم شدة احتياجه إليها، لم يستطع النظر إليها كثيرًا، كما لم يقو على البقاء بجانبها، قرر الخروج من المكان ثم العودة إليه، ثم مغادرته، ثم العودة إليه مرة أخرى، وفي المرة الأخيرة رأى الطبيب يُوصِدُ برفق باب حجرة صغيرة مَلأى بنساء كثيرات ليتجه نحوه ويقف أمامه ليخبره على ملأ من الحضور أن أمه قد فارقت الحياة!

كان الصبي ذو السبع سنوات يعي تمامًا معنى الموت، ومعنى أن أُمَه قد ذهبت عند ربنا، في مكان أجمل وحياة أهدأ بلا ضجيج أو صخب، وأنها الآن في صحبة الملائكة تنتظره بعد عمر كي يستكملا معًا حياتهما السعيدة التي بدآها معًا، بيد أن كل ما كان يشغل باله في تلك اللحظة التي أخبره فيها الطبيب أن أمه قد ذهبت، أن الشتاء هذا العام أتى باردًا على نحو لا يُحتَمل وأنه لم يعد هناك هذا الحضن الذي ينعم به كل ليلة قبل أن ينام فيغمره دفئًا وحنانا، وأنه مازال لا يعرف الفرق بين الحروف المتشابهة (الحاء والخاء، الصاد والضاد ....) ، هو لا يثق في معلمته كما يثق في أمه التي ستشرح له الدرس وتعلمه، ثم كيف له أن يذهب إلى تدريبات كرة القدم بمفرده، ويعود بمفرده؟ هل سيمكنه فعل ذلك؟! حتى لو استطاع، فمن ذا الذي سيشجعه ويثني على أدائه؟ وأبوه لا يجيد التعامل معه ولا يستطيع تفهم رغباته أو مغفرة أخطاءُه المتكررة، لا شك أن قدرًا كبيرًا من المعاناة سوف تواجهه.

استسلم الصبي لفجاعة الخبر، كما يستسلم الغريق للحظةِ الغرق، ظل يرمق الحاضرين بنظرات الحيرة والأسى وهو يرى النظرات نفسها في عيونهم وكأنه ينظر في المرآة، اندفع بقوة ليلقي نظرة الوداع على أمه بيد أنهم منعوه من الوصول إليها، وجد نفسه منساقًا بقوة الحدث إلى حيث لا يرغب ولا يحب، ينتقل من بيت إلى بيت، ومن مكان إلى مكان، ومن حضن إلى حضن، قضى يومه هذا أشبه بزورق خشبي متهالك في خضم بحر هائج تتقاذفه الأمواج بقسوه وهو يبحث فيه عن أمه بين الناس لتطمئنه وتمنحه الأمان. ولكن بلا أمل!

في آخر الليل وجد نفسه مدفوعًا برغبة حميمة لأن يكتب لها رسالة: "أمي الحبيبة، كيف حالك؟ قالوا لي إنك ذهبت عند الله، وأنا أعرف أن الله يحبك، لا شك أنه سيعتني بكِ كثيرًا، أكثر من أبي ومن الطبيب ومني، الآن عرفت كيف أكتب حرف الحاء صحيحة، إني أحبك يا أمي، أحبك أكثر مما تتصورين ولهذا سوف لا أخطئ أبدًا، ولن أغضبك أبدًا، سأنتبه دائمًا لدروسي، وأنظف غرفتي و أطيع أبي في كل ما يطلبه مني، سوف أنام مبكرًا كما كنت تحبين أن أفعل وآكل كل ما يُعد لي من طعام، سوف أخبر معلمتي أنك لن تذهبي إليها مرة أخرى كي تناقشي معها تقرير المدرسة، فعليها أن تناقشه معي أنا، لأنك ستكونين معي، فقد قالوا لي إن روحك سوف تكون معي في كل مكان، وإنك لن تتركيني أبدًا.

اليوم شديد البردوة يا أمي، لن أنام في غرفتي، سوف أنام في سريرك، مازال دافئًا منذ الصباح، منذ أن تركتيه وذهبت إلى هذا البيت الغريب، الذي تستقبلك فيه الملائكة كي تذهبين معهم إلى الله، أما أنت فاعتني بنفسك جيدًا واطلبي منهم غطاءً وجوارب سميكة تحميكي من تلك البرودة.

في الصباح سوف أُلقي في صندوق القمامة تلك الأدوية الخاصة بك، إني أكرهها! اسمحي لي فقط أن أحتفظ بالعلب الفارغة كي أصنع منها بيتًا جميلًا كهذا الذي ستسكنين فيه في الجنة. هذا البيت سوف أهديه لك في أول زيارة، وسوف ترين كم أنا ماهر في صناعة البيوت الورقية.

قالوا لي إن الجنة بها فاكهة كثيرة، وأنا أعرف أنك لا تحبين الفاكهة، ولكني أعرف أيضًا أن الله يحبك وسوف يعد لك كل ما تحبينه هناك.

في نهاية خطابي، أرجو منك يا أمي أن تطلبي من الله أن يردك إلينا يومًا واحدًا، يومًا واحدًا فقط ثم عودي إليه إلى الأبد، أريد أن أراكِ مرة أخيرهة لأنهم منعوني من رؤيتك طوال هذا اليوم. أنا واثق أن الله سوف يلبي طلبك هذا. عندما تحضرين ستجدينني في انتظارك وسوف أعد لك الفطور في الصباح وأحضره لك في السرير كما لم تعتادي من قبل.

ابنك الذي يحبك".
 
طوى الصبي الرسالة، ورسم على ظهرها صورة قلب ووجه مبتسم، ثم وضعها بجوار سرير أمه، أغلق عينيه المتعبتين واستسلم لنوم دافئ، عميق ومطمئن.

في الصباح، أتاه الرد على رسالته، إذ شعُر بحرارة الشمس تتسلل عبر النافذة وترسل إليه دفئها المعتاد، ورائحة شطيرة خبز شهية، طالما طلبها من أمه لتعدها له، وأخيرًا يد حنونة دافئة تربت على صفحة وجهه، فانتبه، وإذ بأمه شاخصة أمامه، ترمقه بنظرة عطف ممزوجة بشوق بالغ وفي يدها صينية تحمل عليها وجبة الفطور، ومعها الطبيب يقول: "الحمد لله، زالت مرحلة الخطر، وانطفأت نار الحُمى من جسده، هو الآن أفضل حالًا، وعما قريب سوف يتعافى تمامًا، يستمر في العلاج الموصوف له ، ولتبقي أنتِ بجواره أبدًا".
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط