الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

جوهرة الرفيقة..


منذ أن تفتحت عيناي على هذه الدنيا وأنا أراها في شقة مقابلة لشقتنا ودوما كنت أسمع أصواتا وجلبة فى شقتها بل انها الشقة الوحيدة التى دائما ابدا عامرة بالناس فى كل وقت، حتى إننى كنت أحسدهم على أنهم لا ينامون أبدا لأننى كنت أكره النوم جدا وأخاف منه لأنه نصف موت.

أمى كانت شبه مقيمة عندها وهى أيضا كذلك، كان اسمها جوهرة وكنا نطلق عليها الخالة جوهرة، وقد كانت مطابقة لاسمها فهي ثمينة فى كل شىء وتمتاز بالحنية وطولة البال والصبر المبالغ فيه.. 

خالة جوهرة كانت ابنة وحيدة على خمسة ذكور ولذا فقد حظيت بقدر كبير من الدلال أفرده له ابواها وأكمله اخوتها الذكور، وأصروا على تعليمها ونالت شهادة مكنتها من أن تلحق بحقل التدريس ؛ وبرعت فيه وتميزت ؛ بل ان الكل كان يتسابق من اجل ان تكون معلمة الإنجليزية لأبنائه هى الاستاذة جوهرة. 
 
جوهرة كانت لها جملة لا تفارقها فى السراء والضراء وهى : الرفق جوهرة، تزوجت جوهرة من زميلها فى المدرسة ويقال إنها عاشت معه خمس سنوات انفصلت بعدها وعادت الى بيت أسرتها مع إخوتها الذكور الموزعين فى هذه العمارة التى نقطن نحن فى احدى شققها.

جوهرة انتقلت لشقة ابويها التى تزوج فيها أخيها البكر وأنجب ثلاثة ابناء ذكور، وكانت زوجة أخيها تحبها بشدة وحزنت كثيرا لطلاقها، إلا أن جوهرة كانت تدافع عن طليقها وتبرر فعلته بأنه غصبا عنه فهو يبحث عن عزوة وولاد ، وانا لا انجب فما ذنبه ان يكمل عمره مع عاقر، وكانت زوج اخيها عندما تسمع ذلك يجن جنونها، الا ان جوهرة كانت تكرر جملتها الشهيرة وهى تنظر لزوج أخيها وتقول لها ترفقى فالرفق جوهرة .. 

خالة جوهرة كانت نموذجا للحب الفطرى فى كل سلوكياتها محبة لكل البشر ملتمسة لهم الأعذار، ململمة على اخوتها ، مربية لأولادهم، دائما ابدا فى خدمتهم ورعايتهم، وكانت غالبا ما تتلقى ضربات من اخواتها وزوجاتهم بدلا عن أبنائهم عندما ينقضون عليهم لمعاقبتهم وكانت تقول لهم الرفق جوهرة، ومن كثرة استخدامها لهذه الجملة اطلقوا عليها وصارت معروفة بالجوهرة رفيقة ..

تمضى سنوات واقترب منها وتقربنى إليها وألمح الحزن الساكن فى عينيها ، وتعترف لى بأنها حزينة لفراق زوجها لها وبأنها تحبه ولاتستطيع ان تتزوج غيره من طابور الخاطبين المتوافدين عليها وعلى أخواتها، وعندما انصحها رغم صغر سنى بالزواج حتى لا تكون وحيدة كانت تبتسم وتقول : من أين ستأتى الوحدة وانا وسط كل الاحبة .

وفى يوم اسمع اصوات عالية من شقة الخالة جوهرة واعرف بعدها ان زوجة اخيها سقطت مغشيا عليها وأنهم نقلوها إلى المستشفى ومكثت فيها شهرا ، لازمت أنا فيها الخالة جوهرة وكنت أرى ما لم يصدق ولا يوصف ، كان ابن اخيها البكر لا يصلى ولم تنهره وسألته بلطف لماذا لا تصلى يا أحمد فقال لها اصلى ليه ياعمتو ربنا العظيم هيعمل ايه بصلاتنا هو محتاج صلاتنا فى ايه ؟ وبهدوء غريب قالت له بما انى مسؤولة عنك الآن لغياب امك ولملازمة ابيك لها ولأنى كنت مستاءة من قبل ولكنى أؤمن بأن لكل دوره ولذا لم اتدخل لوجود والديك ، وبأن هذا متروك إليهم ، ولكنى اريد ان اسألك سؤال هل عندما نتصل بمسؤول ما أو بشخص له حجم وقدرة يكون هو بحاجة لسؤالنا ؟ فأجاب احمد بسرعة بالطبع لا ..
وهنا تبسمت جوهرة وقالت هكذا هى الصلاة ففيها تخاطب ملك الملوك وهو يسمعك ويستجيب ويجيب .. ومن يومها ولم يترك احمد فرضا ، وكان اخيه عصبيا دائم الشجار فما كان منها الا ان اوضحت له بهدوءها ان العصبية ستؤذيه وطلبت منه كلما كان عصبيا ان يدق مسمارا فى سور حديقة العمارة وبالفعل قام بذلك وفرح جدا بأنه لم يعد بنفس العصبية التى كان بها من قبل؛ فما كان منها الا ان طلبت منه ان يزيل المسامير التى ثبتها فى السور وينظر الى ماتركته من اثر واثار ، ففطن الى ماترمى اليه وداوم على الاستغفار كما علمته جوهرة عندما يكون عصبيا لابد ان يستغفر ، اخيهم الاصغر كان صوته عاليا فكانت تقول له كم احب صوتك العالى ولكن يوجد ملك يحب ان نهمس فى اذن الارض كى يسمعنا رب السماء ..
لم تكن جوهرة تعلم احدا الا بدروس عملية جعلت الكل يحبها ويقدس طريقتها واسلوبها . فى يوم دخلت عليها وجدتها تقلب صور زفافها وبيتها ، وتمعن النظر فى صور زوجها، وسألتها لازلتى تحبيه ..فقالت بسرعة نعم ، فقلت لها عودى له وخاصة انه وسط كل البشر القريبين والبعيدين كى يعيدوكى اليه وانا سمعته بأذنى يطلب منك الرجوع وان تربى اولاده ، فضحكت بحزن وقالت زوجته لن ترضى ..
يوما بعد يوم وزوج جوهرة يريدها معه ويتصل بها وباخوتها وباولادهم وكل من فى العائلة ؛ وهو الامر الذى اشعل الغيرة فى قلب زوجته واتصلت بها وطلبت منها بعنف يقترب من التهديد بأن تبتعد عنه ، فما كان من جوهرة الا ان قالت لها : حاضر ، انا اسفة ، وجن جنونى وجنون كل من فى الشقة وطلبنا منها ان توضح لها انها زوجته قبلها فردت بانكسار زوجة وخايفة عليه ، ويمرض طليق جوهرة من حزنه على عدم قبولها العودة ويطلب ان يرانى كى اقنعها بالعودة اليه ويقول لى كنت مغفل لما طلقتها ملعون ابو العيال اللى خلونى افرط فى واحده زيها ، واعود اليها محاولة اقناعها ولكنى افشل لانها تعلم ان زوجته لن ترضى؛ الى ان يدق هاتف المنزل وتطلبها زوجة طليقها وتترجاها بالعودة لزوجها حتى تتحسن حالته ..
وترضخ خالة جوهرة وتعود وبعودتها يعود زوجها للحياة مرة اخرى وتتحمل الجوهرة مر زوجة زوجها وابناءه الذين شربوا من امهم وفعلوا كل مايفسد معيشة جوهرة ؛ الا انها بصبرها وبجملتها الشهيرة ..الرفق جوهرة ...تأسرهم وتقول لزوجة زوجها انت الولود صاحبة السند اما انا فعابر سبيل ، وكانت تحب اولاد زوجها وحينما تهم امهم لضربهم تحميهم وتقول لها : فيه حد يضرب سنده دول سندك ، استطاعت جوهرها برفقها ان تجعل زوجة زوجها وابناءها يعشقونها .. ومضت سنوات قصيرة ماتت فيها جوهرة وحزن عليها زوجها وزوجته واولاده وايضا كل من عرفها .. وكنا عندما نذهب لزيارة قبرها نجد من يقرأ لها القرآن واشاهد زوجها جالسا امام باب القبر يتفوه بكلمات لاافهم منها سوى انه يتلهف للحاق بجوهرته..
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط