الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ماذا لو ظل حي الزمالك الراقي أرضا زراعية؟


انتابتني دهشة كبيرة، حيال من ينتقدون تسليح مصر بعاصمة إدارية جديدة وأنا محبوس داخل سيارتي لمدة ساعتين ونصف بسبب الازدحام المروري، لقطع مسافة لا تتطلب أكثر من 10 دقائق، بين شارع القصر العيني والمهندسين، لو كانت الأمور تسير بشكل طبيعي.

ومع ارتباطي بميعاد مهم في المهندسين، بشارع شهاب، تبادر إلى ذهني أن أتخلص من هذا التكدس المروري الرهيب في السيارات بالهروب لشوارع جاردن سيتي، لكن تبين لي بعد محاولة فاشلة، أن الوضع في شوارع جاردن سيتي أسوأ بكثير من القصر العيني، بسبب إغلاق معظم شوارع الحي الراقي لدواعى أمنية بسبب احتضانه للعديد من السفارات التابعة لدول كبرى.

وعندما تراجعت مجبرا عن محاولة الهروب بسيارتي لجاردن سيتي، سيطر على تفكيري وأنا أسير بسرعة السلحفاة من أمام كلية الطب بشارع القصر العيني حتى مطلع كوبري أكتوبر بميدان عبد المنعم رياض تساؤلا مهما، ماذا يمكن أن يكون الوضع، لو قطعت نفس المسافة، في نفس توقيت خروج الموظفين والمدارس والجامعات عندما يتم تفريغ هذه المنطقة من مجلس النواب، ومجلس الوزراء، والمصالح الحكومية، إلى جانب نقل السفارات، الأمريكية، والبريطانية، والإيطالية، إلى العاصمة الإدارية الجديدة المقامة في الصحراء الشرقية.

وهنا قفز أمام مخيلتي تجارب دول أخرى، وقلت لنفسي، لماذا لم نتحرك منذ زمن طويل ولم نلجأ لحل جذري لمشكلة تكدس العاصمة بالبشر والسيارات، رغم أن الهند سبقتنا في ذلك منذ أكثر من 60 عاما، بتشييد عاصمة جديدة، تحت اسم نيودلهي، بعد أن تكدست مدينة دلهي التاريخية بالسيارات والسكان، ولماذا تأخرنا كل هذه السنوات وأمامنا تجربة نجاح البرازيل في تغيير عاصمتها في سنة 1960، من ريو دي جانيرو، لبرازيليا.

ثم عدت وتساءلت، لماذا نذهب بعيدا لقارة آسيا وأمريكا الجنوبية، وأمامنا أمثلة أكثر واقعية من قارتنا، قارة إفريقيا، على رأسها، نيجيريا، فقد كانت لاجوس عاصمة نيجريا، تعاني من تكدس رهيب في البشر والسيارات، بوصفها أكبر دولة إفريقية من حيث عدد السكان، حيث تجاوز تعداد سكان نيجريا حاليا حاجز الـ 150 مليون نسمة، ونظرا لما كانت تعانيه لاجوس من تلال النفايات، وتدهور البنية التحتية، وتلوث البيئة، وتدهور أخلاق المواطنين بفعل الازدحام، قررت الحكومة النيجيرية بناء عاصمة جديدة بديلة للاجوس.

فبدأت التخطيط، لأبوجا، العاصمة الجديدة، في منتصف الثمانينات، لترى النور في 1991، من خلال نقل كل الوزارات، والمصالح الحكومية والسفارات إليها. ومن يزور اليوم أبوجا ويعقد مقارنة بينها وبين لاجوس سيشعر كما أنه لو كان انتقل من القرن التاسع عشر للقرن الحادي والعشرين.. فأبوجا أصبحت اليوم تشبه إلى حد بعيد، نيويورك، في جمال مبانيها، ونظافة شوارعها، واحترام سكانها لقواعد المرور.

وفي واقع الأمر فإن نيجريا لم تكن أول دولة إفريقية تسلح نفسها بعاصمة جديدة، فقد سبقتها في ذلك، كوت ديفوار، بعد أن عانت عاصمتها القديمة أبيدجان، بكل ما تعاني منه القاهرة حاليا. ولم يكن رئيس كوت ديفوار الراحل، فليكس هوفويه بوانييه، يفكر حتى سنة 1978 في استبدال أبيدجان، العاصمة القديمة بعاصمة جديدة في مدينة ياموسوكرو، حتى التقى في القاهرة في نفس العام بالزعيم الراحل أنور السادات،.

وخلال زيارة هوفويه بوانيي للقاهرة، أخبره السادات، أنه قرر نقل العاصمة المصرية إلى مدينة السادات، في منطقة صحراوية، تحمل اسمه تقع في منتصف المسافة بين القاهرة والإسكندرية، ولم يكن فليكس هوفوييه بوانييه يعود لبلاده  إلا وقرر استنساخ تجربة السادات بنقل العاصمة الإيفوارية إلى مدينة ياموسوكرو مسقط رأسه، ليفتتحها سنة 1983 بعد تحديثها، في حين لم يمهل الإرهابيون السادات الوقت الكافي لتسليح مصر بعاصمة جديدة.

وإذا كانت، أبيدجان، ولاجوس، تعانيان من تدهور البنية التحتية والازدحام المروري، فإن القاهرة عانت مما هو أخطر وهو تدمير الأراضي الزراعية المحيطة بها جراء الزحف السكاني على الرقعة الزراعية المحدودة بفعل الفقر المائي، في حين أن كوت ديفوار ونيجيريا لديهما ثراء مائيا كبيرا ورقعة زراعية هائلة.

ولن أتحدث هنا على ما تم تدميره من أراضي زراعية في القاهرة الكبرى بفعل الانفجار السكاني منذ خمسينات وستينات القرن الماضي فقد أظهرت كل أفلام الأربعينات أن مناطق الهرم، وفيصل، والمهندسين، وإمبابة، وغيرها كانت أراضي زراعية تمد سكان القاهرة بالخضراوات الطازجة بأسعار معقولة، لكن سأستند على إحصائية لوزارة الزراعة كشفت عن أن حجم التعديات على الأراضي الزراعية بعد ثورة 25 يناير بلغت نحو 8ر1 مليون تعد، مما أدى لتدمير نحو 100 ألف فدان من أجود الأراضي الزراعية، جانب كبير منها من الرقعة الزراعية المحيطة بالقاهرة، فهل يمكن بعد ذلك أن نتساءل لماذا ترتفع أسعار البطاطس والطماطم والخضراوات الأخرى؟! فقد كانت كل هذه الفدادين المدمرة تساهم في توفير الخضراوات لسكان القاهرة والمدن الأخرى بأسعار معقولة لشعب كان تعداده نحو 85 مليون نسمة عندما قدم الرئيس الأسبق، حسني مبارك، استقالته في 2011، فكيف نتستغرب إذن من ارتفاع أسعار الخضراوات بعد تدمير 100 ألف فدان في وقت تخطى فيه تعداد الشعب المصري حاجز الـ 105 ملايين نسمة في 2018.

وعندما وصلت لشارع جامعة الدول العربية، بعد ساعتين من الزمان، بسبب التكدسات المرورية، وجدت اثنين من شباب الضباط يحاولان فك الاشتباك بين السيارات عند تقاطع ميدان مصطفى محمود مع شارع سوريا، ورغم الجهود التي بذلاها إلا أن أعداد السيارات كانت هائلة لدرجة أن الضابتين تبادلا حديثا يائسا عن إمكانية التوصل لحل مشكلة المرور في القاهرة وسط جحافل السيارات، والميكروباصات، والسيارات الأجرة، في ساعة الذروة.

وهنا حدثت نفسي بصوت مسموع قائلا "لماذا تأخرنا 50 عاما عن تسليح مصر بعاصمة جديدة ألم يكن ذلك كفيلا بحل معضلة الإزدحام المروري وكارثة تدمير الأراضي الزراعية؟".. لكن هذا التساؤل إزداد إلحاحا، وأنا محبوس داخل سيارتي، أطلع على تليفوني المحمول، لأشغل وقت فراغي داخل سيارتي حتى أصل لشارع شهاب، رغم أن المسافة التي تفصل شارع سوريا عن شارع شهاب لا تزيد عن 300 مترا فقط، ففوجئت بصورة فوتوغرافية لحي الزمالك تعود لعام 1900 منشورة على فيسبوك يظهر فيها المزارعون وهم يفلحون أرض الزمالك التي كانت حقولا زراعية بلا مباني، تساهم هي أيضا في تزويد سكان القاهرة بالخضراوات والفاكهة.

ولم أمنع نفسي من توجيه كلامي للضابتين اليائسين من إمكانية سرعة فك الاشتباك المروري بشارع جامعة الدول العربية قائلا لهما من شباك سيارتي "لو كنا أقمنا عاصمة جديدة لمصر في الصحراء منذ أكثر من مائة عام ما وصلنا لما نحن فيه الآن". فنظرا إلي الضابتين بدهشة لعدم إدراكهما لما أقصد من كلامي فتابعت قائلا "نعم نحن لم نتأخر 50 عاما فقط عن بناء عاصمة جديدة بل تأخرنا أكثر من قرن من الزمان والدليل أن الزمالك كانت أرضا زراعية".
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط