الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

دنيا طارق تكتب: طارقة الأبواب

صدى البلد

ثالث بيت أخرج منه وأنا منكسة الرأس، لا أدري إذا كان خجلي هذا مني لكوني شعرت بتطفلي، أم خجلًا من أفعالهم وتصرفاتهم؛ أنزل سلالم البيت وأنا أستند بالحائط المشقق الذي احتوته الشروخ والجروح، تغير لونه أو ربما أنه لونه الظاهر الآن هو اللون الحقيقي له، مثلي أنا.. أنزل وأنا أفكر إذا كنت سأذهب لبيت رابع لا يزيدني سوى تيهًا ورُعبًا من البشر أو ربما من ظنوني بهم.

أتذكر كلمات جدتي منذ عشرين سنة حين كانت تجلسني بجوارها وهي تعلم وتوقن أن كلماتها ستركض من أذني التي ترافق أذني الأخرى التي دست فيها مفرداتها، وهي تكرر أقساهم، عانس، كلمة مهما تغيرت الأجيال وتغيرت الثقافات ورغم كل الهتافات والتمرد ضدها لن تمحى، رغم مناداة النساء بمساواة المرأة بالرجل لن يتمكنوا من ترسيخ كلمات أدق لتعبر عن تلك الحالة سواها كنصيبها هكذا، أو أرادت هذا، وأعتقد أن كليهما منطقيًا، أتعجب من غضب الرجال كون النساء تنادي بالمساواة نحن ننادي بالمساواة فقط لا نرغب في أن نكون أصحاب الأولوية، لكني أظن حتى المساواة ترعبهن.

كانت تتحدث معي دومًا عن الإحساس الذي تشعر به في وقتها؛ قربت على الستين فتشعر بالوحدة والخواء، لا يكفيها يوم التجمع العائلي الذي نصطنعه أحيانًا لنشعر بإرضائها حتى لو لم يكن حقيقًيا، يوم لا يعوضها عن تلك الأيام التي تجلس فيها شريدة وتفزع حين تظن أن خيالًا قد مر بالطرقة لكنها تتذكر أنها بمفردها فتتأكد أنها مجرد تهيؤات، حين تظمأ وتنادي على اسماءنا واحد واحد وحين لا تجد ردًا تحاول أن تتحرك هي، لتمشي أمتارًا قليلة لتأتي بالماء لكنها تشعر أنها أميالًا.

ظلت تناقشني حول أن الزواج لا مفر منه وإذا كنت لا أريده في الوقت الحالي سأريده فيما بعد، حينها كنت في ريعان شبابي، أدرس وأعمل أتقدم في الاثنين، أذهب للبيت للنوم فقط كوني أنشغل بقية اليوم بين الاثنين وبين الأصدقاء والتنزه والمرح، كنت أخبرها أنني حين أكبر سأجد رفاقًا وأقاربًا يونسوني حين لا أجد زوجًا بجواري ..لم أكن أمانع المنع التي كانت تظنه لكني لم أكن أفكر بالأمر حتى لا ألتهي به.... وفي الفترة ذاتها كنت أحضر أفراحًا، ولا أرى السعادة إلا في عيني العريس والعروس، لكن عن الحضور مهما كان عمر زواجهم أجدهم عابسين يتأففون من كل صغيرة وكبيرة، لم أكن أعرف تفاصيل حياتهم بالطبع لكن منظرهم هذا كان يرعبني، أتتني واحدة من بينهم لتلقيني الدرس الذي أُجبر عليه في كل مناسبة لكنى كنت أحاول الإنصات علِّي أجد في مرة من بينهم درسًا جديدًا.. فقد كانوا رغم مللهم ورتابة حياتهم وصعوبة المسئولية ونفورهم من وضعهم كانوا يحثوني على الزواج! حتى أتتني من شعرت أنها تقف في الحياد ووجدتها بين الحديث تروي حالة تشبه حالتي :

•قبل أن أتزوج كنت أحضر حفلات زفاف وأنا عيناي تلمع فرحًا، أتمنى أن أكون جالسة مثل العروس بجوار من أحببت، أتخيلني وأنا استعد ليوم كهذا، بيت و فرش وفساتين وزغاريد وفرحة تنتشر في كل ماهو حولي، كنت أظن أن حياتي ستنقلب لكنها لم تنقلب للأحسن، أخفي كل ما بداخلي خوفًا من الشماتة ومن التبكيت، لن أجرؤ أن أخبرهم أن الحب حقًا لم يكن كافيًا للزواج، إذا كان كافيًا لأصبحنا نتزوج كل شخص نقع في غرامه، نتناسي أن نبحث بجوار الحب عن الرجل الصحيح، من تجدي نفسك لا تجازفي في أموركما، السلاسة تملأ حياتكما بدون تدخل منكما، تفكيرنا دومًا أن نجد من يشاركنا حروبنا لننتصر، من يخطو معنا فوق الأغلام دون اكتراث، لكننا نتغافل أن نبحث عن من يحافظ على سلامنا، من يشاركنا ثواني حياتنا دون ملل، تجيبنا عيناه لتطمئننا من كل ما يخيفنا، من يحاوط أفكارنا ويرتب بعثرتها دون أن نتدخل.

كنت كمن وجد قشة النجاة في بحر رمال متحركة تبتلع كل من فيها، رُسخت كلماتها بداخلي وكنت أسير على هذا النهج بكل رضا، أنتظر لأجد من يطبق كل ما قالته هذا لأقبل أن أمنحه شراكة حياتي.

لكن بعد أعوام كثيرة... شعرت أنني عليّ أن أراجع نفسي؛ فقد كبرت بما يكفي، تمر أيام وأنا لا أنطق بكلمات بسيطة، لا أجد من أبادله حديثًا من الأساس، ورفاقي كبروا معي، لكن جميعهم تزوجوا!، كونوا أسرًا لا أعلم إذا كانوا راضين عنها لكنهم يقولون هذا حين أذهب لكل منهم.

حين أشعر أنني مللت الملل أحاول أن أذهب لبيت واحدة من صديقاتي لأتحدث معها، لأجلس وآنس بأطفالها فقط حتى لا أشعر بوحدتي هذه، حتى سمعت ابنة واحدة منهن وهي تخبرها :

• رفيقتك هذه لا تكف عن الكلام.. أُصاب بالصداع حين تأتي.

لم أكن أشعر بلساني وهو يستفيض في رواياته فكنت أعوض أيام صمتي، لكني بررت هذا بكونها مازالت صغيرة ولن تتفهم حالتي،

ماذا عن أمها..رفيقتي ! 

وجدتها تخرج من غرفتها بعد كلمات ابنتها لتخبرني أنهم أتاهم تجمع عائلي مفاجيء يجب أن يستعدوا له فشعرت أنها هي أيضًا أصابها الصداع مني..فرحلت.

والأخرى التي حيت تراني من عين الباب أنني أنا الطارقة لا تفتح لي لكني أرى الحركة خلف العين وأسمع واقع خطواتها على أرضيتها الخشبية.

والثالثة يفتح لي ابنها الباب وأرى خيالها في غرفتها لكنه يخبرني أنها ليست بالبيت فأخجل وأرحل.

أهؤلاء هن صديقاتي حقًا؟ّ! في شبابي كنت أمنحهن كل وقتي تقريبًا.. تلك تركت ذاك فأواسيها، والأخرى ترسب فأجلس لأدرسها في الإمتحان في السنة التالية، ومن تتشاجر مع عائلتها فأستضيفها في بيتي وكأنها من أصحابه.. لكن الآن حياتهن الشخصية كل شيء بالنسبة لهن رغم أن حياتي حينها كانت ملكهن.

أليس هذا هو وقت الضيق الذي يقولون أن الأصدقاء يظهرون فيه؟!.. لكني كنت أستجدي وجودهم...لست نادمة على عدم زواجي فهو حقًا لم يأت.. ولست نادمة على أفعالي مع صديقاتي لكني أتألم كون الوحدة فُرضت عليّ..هن يعلمن أنني أخشاها.. وأنني أفكر كثيرًا فيها، ومتأكدات من حبي لهن.. وكنت أظننى متأكدة من حبهن لي أيضًا.

لا أدري إذا كان هناك زوج قادم قريبًا..لكني رغم هذا لا أنتظره...فعدم وجوده ليس السبب في وحدتي.. وإذا عاد بي الزمن لن أقبل أيضًا سوى بالزوج المناسب لكن ربما كنت انتقيت رفاقي أفضل من هذا..ربما لو غربلتهن لوجدت واحدة على الأقل تشاركني تلك الكهولة، حتى لو ينتهي بي الأمر لأجلس بجوارها وتتحدث هي وأنا أستمع وأبقى في صمتي الذي يلازمني لكن يكفيني لأشعر أنها لا ترفضني.. أنها تريدني لأي سبب.. فقط لأشعر أن أحدًا لا ينفر من جلستي، لا تكون رفقتها بي طيلة العمر فقط حتى تموت احدانا، بل حتى لنعيش معًا كل شيء قبل أن يحدث هذا.

ما لي بوجودك إذا كان مؤلمًا هكذا