EN 
البعض تبهره الطفرة الكبيرة التي حدثت مؤخرا في وسائل الاتصال، ولا يعلم أن أسرع وأروع وسائل اتصال موجودة في جسمه، وكل اكتشافات البشر مأخوذة من بديع صنع الله "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" (الذاريات 21)، "قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا" (البقرة 32).
التواصل داخل أجسمنا يحدث بثلاثة طرق: اتصالات كهربية في المخ والأعصاب والعضلات، واتصالات "مباشرة" بين الخلايا وبعضها بلغة تشبه لغة النمل والنحل كشف العلماء بعض حروفها وما زالوا يحاولون فهم كلماتها، واتصالات "عن بعد" برسائل كيميائية تقوم بها الغدد الصماء من خلال الهرمونات.
وكما تنقطع عنا الكهرباء والانترنت لخطأ فني، تنقطع وسائل الاتصال في أجسامنا لسبب مرضي.. فانقطاع كهرباء المخ والأعصاب عاقبته الغيبوبة والشلل، وانقطاع لغة التفاهم بين الخلايا نتيجته النمو العشوائي للأنسجة في شكل أورام وسرطانات، وخلل في الرسائل الكيميائية من الغدد الصماء حصيلته عشرات الأمراض الباطنة، بعضها سهل العلاج وبعضها قاتل.
هذا المقال يلقي الضوء على إحدى طرق التواصل في أجسامنا وهي التحكم بالرسائل الكيميائية، وهي "رسائل نصية" تشبه تلك التي نتداولها فيما بيننا، لكن تبعث بها الغدد الصماء ويحملها الدم..
سميت هذه الغدد بالصماء لأنها بلا قنوات، تفرز هرمونات في الدم مباشرة لتصل إلى كل جزء يهمه الأمر في الجسم ليقرأها وينفذها! وعند الحيوانات أيضا غدد وهرمونات ورسائل مشابهة.
أنواع وأمراض الغدد الصماء في جسم الإنسان لا يمكن حصرها في مقال، فلكل غدة أمراضها وفحوصاتها وعلاجاتها، وهي تخصص قائم بذاته في الطب، لذا اكتفينا هنا بالمختصر المفيد وتحاشينا السرد الممل.
الغدد الصماء في جسم الإنسان أكثر من عشر: الغدة النخامية وتحت المهاد والصنوبرية عند قاع المخ، الغدة الدرقية أمام الحنجرة وجار الدرقية وهي أربع غدد صغيرة مغروسة فيها، الغدة فوق الكلوية، جزر البنكرياس، الخصية، المبيض، المشيمة، بعض خلايا الكلية وجدار المعدة والأمعاء، ومؤخرا وجد بعض الباحثين أن للقلب دور هرموني أيضا.
والغدد الصماء على صغر حجمها تقوم بعمليات كبرى مثل التحكم في الطاقة وضبط الحرارة ونمو الجسم والنشاط الجنسي والانجاب، ودقات القلب وضغط الدم والهضم، بتعاون وثيق مع الجهاز العصبي اللاإرادي، وأمراضها احتمال من ثلاثة: زيادة الإفراز أو نقصه أو عدم فعاليته، وهي قائمة طويلة من الأمراض على رأسها وأكثرها انتشارا داء السكري.
الغدة النخامية مثلا حجمها كحجم حبة البازلا، تتدلى من قاع المخ، ولها دور قيادي لذا أطلق البعض عليها لقب "المايسترو" لأنها تفرز عشرة هرمونات بعضها تأثيره مباشر وبعضها تأثيره غير مباشر من خلال التحكم في غدد أخرى كالخصية والمبيض والدرقية وفوق الكلوية.
أبرز هرمونات الغدة النخامية هرمون النمو، وظيفته الإشراف على النمو الطبيعي المتناسق، وهو عمل بالغ الدقة خصوصا في فترة الطفولة، وزيادة إفرازه تسبب نوعين من العملقة حسب السن: عملقة منتظمة تحدث قبل سن البلوغ أثناء نمو العظام قد يزيد فيها طول الشخص عن مترين ونصف، وعملقة غير منتظمة خصوصا في الوجه والكفين والقدمين لو زاد الهرمون في سن متأخر، ونقصه في عمر الطفولة يؤدي إلى التقزم، ولوحظ أن هرمون النمو يزيد إفرازه أثناء النوم لذا شاء الخالق أن تنام الأطفال أكثر من الكبار، وقلة نوم الطفل أو حرمانه منه يعوق نموه.
إضافة إلى هرمون النمو، تفرز الغدة النخامية مجموعة هرمونات تنظم التبويض والدورة الشهرية والحمل والولادة وإدرار اللبن، وهرمون الأوكسيتوسين الذي يربط الأم بوليدها، وهو نفس الهرمون الذي يشد المحبين لبعضهم.. إضافة إلى هرمونين يتحكمان في الغدة الدرقية وفوق الكلوية وآخر يضبط نسبة الأملاح في الجسم ويحفظ سوائله من الفقدان في البول.. كل هذه الوظائف العظيمة تقوم بها غدة واحدة وزنها أقل من 1 جم.
أما داء السكري فمعروف منذ عصر الفراعنة، لكن سببه الحقيقي لم يعرف إلا أوائل القرن الماضي وهو نقص إفراز الإنسيولين من جزر البنكرياس أو مقاومة الجسم له، لذا يوجد نوعان منه: النوع الأول بسبب غياب الإنسيولين والنوع الثاني بسبب نقصه أوقلة فعاليته وهو الأكثر انتشارا وفي ازدياد، فقد تضاعفت الإصابة به أربع مرات منذ عام 1980 ويعتبر من أمرض العصر لأنه يترافق مع السمنة وقلة النشاط، وإهمال علاجة يؤدي إلى عواقب وخيمة كفشل الكلى وأمراض القلب والتهاب الأعصاب وبتر الأطراف.
وتشير آخر إحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى وجود 422 مليون مصاب بداء السكري حول العالم، ويموت بسببه مليون ونصف إنسان كل عام.
وفي الختام نعرض نموذجا لإحدى الرسائل النصية "مدفوعة الأجر" التي ترسلها الغدد الصماء ليل نهار، ولتكن رسالة البنكرياس إلى الجسم والتي يحملها هرمون الانسيولين "يجب ألا تزيد نسبة السكر في الدم عند الجوع عن 100 ملجم/ديسيلتر، وألا تزيد بعد الأكل عن 140 ملجم/ديسيلتر.. وإلا.."
