الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مبروك جالك جواب التعيين


دخلت ذات يوم أحد الأسواق الكبرى (هايبر ماركت) لأتسوق، كعادتي الأسبوعية أنا وزوجتى التي تحرص دومًا على اصطحابي في هذه الرحلة الإلزامية، وبعد ساعتين من الدوران حول عقارب الساعة، أخيرًا قررنا التوجه للمحاسبة، وإذا بي-حيث إني المسؤول عن هذه المهمة القومية-أطالع عداد الحسابة وهي تحسب، وبالكاد أستطيع أن أؤدي هذه المهمة خشية أن يكون هناك خطأ ما. وإذا بي أصيح الله أكبر، فالرقم قفز قفزة غير متوقعة، مما اضطرني لإخراج البطاقة البنكية وإعادة الفكة إلى جيبي.

ووجهت حديثي للفتاة الواقفة بكل همة ونشاط على الحسابة مداعبًا إياها: "زمان كنا بنحسب الحسبة دي بعقلنا"، فأجابتني: "ودلوقتي ممكن أحسبها لحضرتك بنفسي". فقلت لها: "ماشاء الله، هو حضرتك خريجة أيه؟" فأجابتني: "هندسة عين شمس"!

أسقط في يدي! وقلت لها في نفس الوقت، وقد شرد ذهني لبرهة، "ماشاء الله، ربنا يوفقك يابنتي". لم أستطع أن أنبس ببنت شفة عما جال في خاطري حينئذ، خشية أن أثبط عزيمتها، رغم أني أكبرت فيها عملها الشريف، فهي لم تجلس حبيسة المنزل، كآلاف الشباب، أو وضعت يدها على خدها حزنًا وألمًا، أو وقفت ترمق ببصرها من سيصعد الدرج ويدق بابها طالبًا إياها للزواج؛ بل طرحت كل ذلك جانبًا، ونظرت إلى الواقع بكل آلامه وهمومه، وقررت ألا تكون حبيسة ذلك السياج المحيط بها منذ خمسة وعشرين عامًا. 

قررت الفتاة وحسمت أمرها، وأبرزت بطاقة الإرادة، وتحدت الأيام وكل من عارضها من السادة، وأطلقت ساقيها لتسابق الريح لعلها تنال منها وتخضعها لإرادتها، رغم أنها تعلم أن سرعة الرياح في مصر تحسب بالمتر في الساعة؛ لكنها عزيمة فتاة بألف رجل، لك كل التحية والتقدير يا ابنتي، التي لم أعلم اسمك حتى الآن.

لن أقف عند هذه الحادثة لأناقشها من الجانب الذي قد يقف عنده بعض القراء، فهناك من سيقول: "وأيه اللي جابرها على كده!" وسيقول آخر: "الله...الزمن اللى حوجها لكده!" وسيقول ثالث: "دي أخرة التعليم في بلدنا، هندسة وبتشتغل كاشير!"...إلخ هذه العبارات المحبطة، التي تجذب أبنائنا وبناتنا دومًا إلى الخلف، ليصطدموا بجدار من صوان رصعوه بلعناتهم على كل شيء في الحياة، حيث يقف هناك الرافضون صعود الدرج، ممن استمرأوا الرغد في كنف الوالدين، اللذين سلما أمرهما لصاحب الأمر، وأصبحا لا يجرؤان على القول: "ماتنزل يابني تشوف لك شغلانه بدل النوم لحد الظهر". فالبيه لا يزال نائمًا، رغم آذان الظهر، وربما استيقظ متقلب المزاج لفروغ علبة سجائره، التي لم يتمكن من شراء غيرها لنفاد مصروفه.

لاشك أن الوالدين لم يقصرا في أداء الرسالة، بل بالعكس اجتهدا بكل طاقتهما ليجعلا من ابنهما أفضل شاب في الدنيا، فابنهما كما نقول "ابن ناس"، ولكن ليس ذلك بالمؤهل الكافي الآن لينال حظه في الدنيا. فقد أصبح سوق العمل يعتمد على العرض والطلب، وليس على المؤهل أو الحسب والنسب؛ مما يستوجب علينا إعادة تأهيل أبنائنا ليتوافقوا مع آليات سوق العمل.

أذكر مرة، عند دخولي مبنى ماسبيرو فإذا بشاب يناديني قائلًا: أنا فلان تلميذ حضرتك سنة 94، فداعبته مبتسمًا: "ليه بس تفكرني بالسنة!" وأضاف: أنا أعمل هنا فرد أمن منذ عشر سنوات، والحمد لله في نعمة. 

كانت سعادتي غامرة عندما نطق بالعبارة الأخيرة، "الحمد لله في نعمة"، مثلما سعدت بفتاة السوق التي ألفت التبسم في وجه المتعاملين معها، دون أن تلعن الظلام، أو تقف مكتوفة الأيدي في انتظار من يصيح قائلًا: مبروك يا باشمهندسة جالك جواب التعيين.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط