الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الرضا.. وضآلة النفس


موقف جليل، عظيم الشأن، تعرضت له شخصيا بعد يوم عمل، وأنا عائد من الجريدة، أثر فىَّ تأثيرا بالغا، حتى أننى قررت أن أنقله لكم -أحبابى القراء- مشاركة فيه، وتعليما منه معى، فبينما أنا خارج من محطة مترو الأنفاق، وجدت بائعا للكشاكيل المختلفة النوع، فوقعت عيناى على كشكول سلك متوسط الحجم وجميل الشكل، فسألته بكم هذا؟، فأجابنى بعشرين جنيها، فقلت له -مفاصلا- "ما ينفعش بخمسة عشر جنيها"، فرد علىَّ: "لما أورث"، ثم أكمل -غضبان الوجه- قائلا: "روح يا أستاذ اشتريه من المكتبات، إحنا بنبيع -على الرصيف وفى الشارع- أغلى منهم"، ثم تركته لأشق طريقى نحو أشياء أخرى كنت قد عزمت شراءها.

بيد أننى بعدما تركته، وفى طريقى لشراء باقى متطلباتى، أحسست بضآلة النفس، وبوخز ضميرى وتأنيبه لى، حادثتنى نفسى قائلة: اتق الله، فالشاب واقف من أول الصباح بطاولة الكشاكيل ليسترزق بالحلال، وواقف على رجليه أكثر من ستة عشرة ساعة، ليتكسب جنيهات قليلة تعينه على الحياة الصعبة التي نحياها في ظل غلاء المعيشة، وقلة فرص العمل الكريمة للكثير من شبابنا، وربما كان هذا الشاب من ذوى المؤهلات العليا، لكن حال وواقع مجتمعنا العملى والاقتصادي والاجتماعى فرض عليه هذا العمل المتواضع في نظر الكثير منا، عظيم الشأن في نظره، مكملة نفسي حديثها لى: ثم انظر إلى كلمات العتاب التي تحمل نوعا من السخرية المهذبة التي قابلك بها "لما أورث"، وطلبه لى بأن أشتري الكشكول من المكتبات لأرى سعره المغالى فيه، وساعتها لن أنطق بكلمة فصال مع البائع، ثم نظرة الحزن والأسى في عينيه، أن رزق بمشترين أمثالى يفاصلونه في جنيهات معدودة يكسبها بالكاد، ثم قررت في عودتى، وبعد شراء باقى متطلباتى، الرجوع اليه لأشترى الكشكول منه بالسعر الذى قاله لى، اعتذارا عمليا منى له، وجبرا لخاطره، وفى عودتى إليه، اشتريت الكشكول، قائلا له: "ما تزعلش على الفصال"، فرد على مبتسما ابتسامة حزينة: "أنا لا أزعل أبدا، والأرزاق بيد الله وحده"، ثم تركته ليواصل الوقوف على قدميه ساعات عديدة أخرى، بجوار طاولة كشاكيله، انتظارا لبضع جنيهات قلائل ينفق بها على نفسه وأسرته.

الحق أعترف أننى أحسست بضآلة نفسى على هذا الموقف معه، وفى الوقت ذاته رأيت رضا مطلقا - مقترنا بصبر ومثابرة من هذا الشاب - بالله الرزاق الرازق وحده، وكيف أنه يؤمن بنعمة الرضا التي هي من أجلِّ النعم التي ينعم الله بها على عباده - وقليل ما هم - ومنّة ومنحة ربانية عظيمة ومن درجات الإيمان التي آثرهم الله بها دون سواهم، مبعدا عنهم خلق السخط، المناقض لها، حيث الإيمان بالرضا، إيمان بالله وبقدره وقضائه ورزقه، وإذعان مطلق لله.

والناظر لحكمة الله في خلقه يجد التفاوت الربانى الذى وضعه سبحانه سنة في كونه وخلقه، فمنا الغنى والفقير والصالح والطالح، والصحيح والسقيم، ومن العباد من الفقر له دواء وعلاج، ومنهم من الغنى والثراء يصلحه دون الفقر والعوز، من ثمة كان صاحب الرضا أبدا ودائما شاكرا، راضيا، محتسبا أمره لربه -تماما كما في حالة شابنا هذا-، حيث يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -متعجبا- لحال المؤمن الراضى، الصابر، الشاكر، بقوله: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له"، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ"، لذا كان الرضا من الإيمان بالله، والسخط من الشيطان.

يروى الإمام البيهقى في شعب الإيمان عن أبى الدرداء قوله: "ذروة الإيمان أربع خلال، الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب عز وجل"، ويقول ابن القيم فى مؤلفه "مدارج السالكين" إن لقمان أوصى ابنه قائلا: "أوصيك بخصال تقرّبك من الله وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تشرك به شيئا، وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت".

والراضى بحاله وقضاء وقدر الله، دائما مسرور بما جعله الله عليه، لا يعرف اليأس والقنوط، يروى أن رجلا كان يطوف حول الكعبة ويقول: يا رب هل أنت راض عني؟ وكان يطوف وراءه الإمام الشافعي، فقال له: يا هذا، هل أنت راض عن الله حتى يرضى عنك؟ فقال الرجل له: يا سبحان الله! كيف أرضى عنه وأنا أتمنى رضاه؟ قال الإمام الشافعي: إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله.

أما الساخط، فدائما يشكو، قانطا من أمر الله وقضائه وقدره وتدبيره، ولو علم أن المنع من الله له كله خيرا، لرضى بقدره ونصيبه، وفى الكثير من الأوقات يكون منع النعمة او الخير، فيه الخير العظيم، والحكمة البالغة التي لا يفهمها إلا أولى الأفئدة الربانية، والبصائر النورانية، وقد فطن لهذا المعنى ابن عطاء الله السكندري، فقال في حكمه: "ربما أعطاك "الله" فمنعك، وربما منعك فأعطاك، وإذا كشف لك الحكمة في المنع عاد المنع عين العطاء".

ومن الأقوال الخالدة للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في الرضا قوله: "ما كنت على حال من حالات الدنيا فيسرنى أني على غيرها"، واشتهرت عنه دعوات كان يكثر من تردادها فكان يدعو: "اللهم رضّني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أُحب تعجيل شئ أخّرته، ولا تأخير شئ عجّلته".

ليكن موقفى مع بائع الكشاكيل درسا بليغا لى ولكم -أحبتى-، ولا نجادل الباعة الجائلين المساكين، ممن يقضون الساعات على أرجلهم من أجل قليل من الجنيهات يسدون ويدفعون به شظف العيش، ولنعتبر مما ننفقه معهم، صدقة مخفية احتسابا لله، وحمدا وشكرا على النعم التي أولاها علينا ربنا سبحانه، ونتقلب فيها ليلا ونهارا، ولنعلم يقينا أن الرب الحكيم سبحانه لا يريد بنا إلا كل خير، وأن الآخرة خير وأبقى، ومرة أخرى عذرا أخى البائع.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط