الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عن الحب الخفي


هناك شخص واحد على الأقل في هذا العالم يحبك بلا مقابل ، هذا الشخص غالبًا أنت لا تعرفه أو ربما لا تتذكره، هو لا ينتظر منك بالضرورة أن تبادله هذا الشعور، قد يكون إنسانا مر في حياتك صدفة ثم اختفى وصنعت له معروفًا، هذا المعروف بالنسبة لك شيء بسيط، بسيط إلى الحد الذي لا تستطيع تذكره، لكنه عنده كبير ، ربما لأنه غيًر مجرى يومه، أو ربما غير حياته كلها، وقد تصادف إنسانا عابرا فتنصحه بفعل شيء أو ترك شيء، ويفعل، فتتبدل أحواله إلى الأفضل، و قد تقابل إنسانا في طريقك ويطلب منك مسألة هامة فتنجزها له وهو لا يتوقع أن تُنجز على هذا القدر من التيسير ، فتنطبع في ذاكرته صورتك الى الأبد ويدين لك بفضل على مر السنين لعظم ما قدمت له في حينه.

ما من أحد إلا وله شخص يحبه، وقد لا يتذكره، يقول نجيب محفوظ في "أولاد حارتنا" على لسان رفاعة: " كلنا مدينون بحياتنا لغيرنا "، وهي مقولة صادقة حقًا، فمن منا لا يطوق عنقه جميل أسداه له أحد ؟، أو مر بأزمة واجتازها بسلام بفضل إنسان آخر ، أو وقع في مأزق ثم وجد من يمد له يده ليخرجه منها ، من منا لم يسعفه آخر في ضائقة، أو ربت على كتفه رفيق في وقت الحزن والشدة ! . هناك مكان غائر في القلب لهؤلاء الناس، ربما هم لا يعرفون قدر محبتهم في قلوبنا، ولكن لا يهم كثيرًا، فنحن لا نطلب منهم مقابلا لتلك المحبة، بل نحاول في كثير من الحالات أن يظل هذا الحب خفيا، تمامًا كالشمعة التي تكاد شعلتها تنطفئ فتحوطها بكفيك في رفق كي تقوى على النهوض من جديد. وربما نفعل ذلك طامحين أن نجد لنا مكانًا في قلوب الآخرين، وطامعين في محبتهم لنا.

إن كنت من هؤلاء الذين يعانون من ضعف الذاكرة ولا يستطيعون تذكر الأشياء التي حدثت لهم في الماضي البعيد أو حتى في الماضي القريب، فأنا أتحدث عنك أنت أيضًا، لأن المعروف لا يستقر في الذاكرة، بل يستقر في الضمير. أنت لست في حاجه الى ذاكرة قوية كي تتذكر صاحب المعروف، أنت أحببته وكفى، والحب محله القلب...لا العقل.، قد تنسى الاسم والشكل والمكان ، قد تنسى تاريخ الواقعة نفسها، لكنك أبدًا لا تنسى أنك تحب هذا الإنسان الذي فعل معك مالم تتوقعه، فاستحق أن يحفر له مكانًا في قلبك عن جدارة.

السيرة الطيبة كذلك أثر من آثار الحب الخفي، قد نتذكر شخصا غائبا عنا منذ زمن بعيد في موقف ما ونقول (الله يمسيه بالخير كان انسان طيب أو كريم أو مخلص أو صادق ... )، نحن نتذكره وبيننا وبينه مسافات طويلة من الزمن ومن البعد، نتذكره ولا نطلب منه ثمة شيء ولو بسيط، نتذكره لأن روحه العطرة وذكراه الطيبة تنساب في المكان كالنسمات العذبة التي تتسرب بلطف فتذكرنا به، نتذكره لأننا نحبه بصدق ، يقول جبران: " سلاما على من يعرفون معنى الحُب ولا يملكون حبيبا ". –فما بالنا ونحن نعرف الحب، ونتذكر الحبيب! 

الزكاة والصدقات والعطايا تترك في قلوب المحتاجين حبا خفيا لك، قد تنقذ إنسانا من حادث سير مروع وتأخذ بيده الى رصيف الأمان، وتتركه وتنصرف، أنت لا تدري كم هو مدين لك بحياته، وما قدر محبتك التي استقرت في قلبه الى الأبد.

هناك إنسان واحد على الأقل في هذا العالم له من محبتك نصيب وأنت لا تعرفه، وهو أحوج منك إلى شيء عندك، يقول ميخائيل نعيمة: " ما غصصتُ بلقمةٍ قطّ، إلّا لأنّ غيري كان أحقُّ بها منّي. "، فما أطعمها من لقمة لديك لا تأكلها أنت، ويأكلها غيرك برضاك ومحبتك، وما أزكاها تلك النقود التي تنفقها من مالك كي تدخرها في محبة الناس. 

هذا النوع من الحب هو الخير المتبادل بين الناس، هو الحب الذي لا ينقطع حتى نهاية العالم، وهو عابر للبلاد ومتجاوز للأديان، ومتخطي للأجناس والأعراق، وهو لا يعرف العنصرية ولا يفرق بين الأبيض والأسود، ولا يعرف الفقير من الغني. هو عندي أشبه بعطر سكبته في نهر جارٍ، ويظل هذا العطر ينقل أريجه كلما انسابت المياه في الجداول. فإذا اغترف منه أحد بيده، تعطرت يداه، واذا صافحه آخر انتقل اليه العطر بالتلامس.

الحب الخفي هو دليل على أن المعروف، مهما تكالبت عليه شرور الناس وحاولت حجبه، يظل موجودًا لا يضيع بين الناس. وهو وفاء وإخلاص وعرفان بالجميل، هو (حصالة المحبة ) والتي ندخر فيها محبة الناس العابرين بنا، هو المواقف البسيطة جدًا والتي تتجلى فيها إنسانيتنا على الوجه الاكمل والأجمل، ومن يدري ،لعلها تكون هي كل ما ندخره في حياتنا.

يحكى أن الروائي جابرييل ماركيز أصيب بمرض "الزهايمر" وعندما زاره أحد أصدقائه وجلس بجانبه، لم يعرفه ماركيز ولكنه نظر في وجهه و قال له "انا لا اعرف من أنت، ولكني اعرف اني احبك".
عزيزي القارئ: الحب كائن حي لا يفقد الذاكرة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط