الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

التراث والتراث المضاد


لعل الموقف من النتاج الفكرى المتوارث من الأجيال السابقة هو واحد من أهم

المجالات الذي يظهر فيها تخبط الوعى الثقافى في عصرنا هذا، سواء بالإفراط في
القبول أو الرفض أو حتى التوسط بينهما، فلعلك تتعجب من أنى ضد المواقف الثلاثة،
لأن المعركة قائمة على أسس العناد والمكابرة والتطرف في كلا الاتجاهين، فلا يمكن
بأى حال من الأحوال التعامل مع هذا النتاج الهائل على أنه وحده واحدة ولا يمكن
كذلك إلباسه لباسا واحدا، لأن هذا النتاج الذي اصطلحنا على تسميته بـ"التراث"
ليس نتاج اتجاه واحد ولا عصر واحد ولا مكان واحد ولا ظرف واحد.



فمالنا ظننا أن التراث مقصور على الفقهى والأخلاقي والتشريعي؟!، فالذين
يظنون أن التراث الإسلامى هو فقط فقه مالك والشافعي وأبي حنيفة وابن حنبل، قد
كشفوا عن عوار بين سواء في فهمهم أو طريقة تناولهم لهذا أو ذاك بالنقد والتقييم.



كما أنه من الخطأ الفادح والفاضح معا، أن يقدم هذا النتاج على أنه نتاج
مضاد للتفكير العقلى وأنه مضاد للتنوير والتجديد بمحاولة فرض مبدأ يبث في وعي
المتابع بأن هناك تضادا  ضروريا ما بين التراث والعقل، فكأن الجيل الحالى قد أوتى ما لم يؤت الأوائل، مفتونا بالتقدم الهائل المحرز في العلوم والصناعات ومناهج البحث وطرق المعيشة وغير ذلك، مع أن هذا
التقدم الملموس لم يأت إلا نتاجا للتفاعل مع ما سبقه من خطوات بذلها علماء رحلوا
وانضمت أبحاثهم ومنجزاتهم الفكرية وتجاربهم العملية إلى الأرشيف التراثى ولكنها لم
تهمل لأنها عاشت في الذين استكملوا المسيرة، حتى لو تبينوا قصورها وخطأها، فكان
لابد من المرور عليها لاستبيان القصور والخطأ ومعالجته والاستفادة منه، فالحضارة
الإنسانية الحالية ليست حضارة لقيطة ومهما بدا من تفاوت مع الحضارات السابقة
عليها، إلا أنها ليست منفصلة عنها ولا يمكن تصور هذا الانفصال حتى مع استشعار
الفجوات الهائلة بين العصر الحالى وما قبله من العصور وإلا دخلنا في دوامة عبثية
حول البحث عن جذور للحضارة الحالية.



ولكن الذي يبدو فيه القصور بالفعل هو ضعف القدرة التأريخية - في كل العلوم
وليس التاريخ العام فقط - في تلمس الصلات بين الحضارات وبين بعضها البعض، فالتاريخ
لم يقدم لنا تفسيرا كافيا لتطور الحضارات القديمة وصلاتها فيما بينها، فيبدو لنا
وكأن الحضارات القديمة في العراق ومصر وسوريا والهند والصين واليونان، خرجت كل
واحدة منفصلة عن الأخرى، فالمصادر التاريخية وإن كانت غير كافية للحديث عن صلات
بين هذه الحضارات، إلا أنه من العبث تصور نشوء كل حضارة كان فجائيا وكأنه عمل من
نتاج السحر والشعوذة!.



كذلك الحضارة الإنسانية الحالية، لا يمكن تصور أنها فقط جاءت نتيجة الكشوف
الجغرافية والحركة الاستعمارية المترتبة عليها ولا حتى ظهور آلة البخار وما تبعها
من ثورة صناعية، فقد سبق هذه وتلك، إنتاج علمى سابق تكمن فيه جذور الحضارة، حتى لو
تضادت أو تناقضت معها، فلا يمكن الوصول إلى اكتشاف هذا التضاد أو ذاك التناقض إلا
باستيعاب ما سبق وهضمه جيدا لتظهر أوجه النقص فيه ليكملها الجيل التالي، فتلك
الفجوات لو دققنا النظر لوجدنا أنها فجوات وهمية.



قس على ذلك تتابعات مدارس الفلسفة والطب والهندسة والصناعة والاقتصاد
والاجتماع.



لذلك أرى أن الدعوة إلى التعامل مع نتاج
الأجيال السابقة على أنه فقط مجرد "تراث" بصرف النظر عن الموقف
الانفعالي منه بالرفض أو القبول أو حتى التوسط بينهما كما ذكرت في البداية، لهى
دعوة ساذجة يحكمها حنق "المع" و"الضد" وهو ما يؤكد عدم النضوج
والاندفاع والخروج عن المنهجية العلمية وتحويل القضية مع حساسيتها - حتى لو بدا
المشاركون في الحوار أصحاب قامات علمية كبرى- من قضية علمية ثقافية إلى قضية جدلية
وصراع يتخذ طابعا إعلاميا أو سياسيا مع الاستقواء بمشجعين لكل فريق، لا تخلو
مشاركاتهم من غوغائية، تفقد الطرح أهميته وجديته وتحوله إلى صراع تستخدم فيه كروت
الضغط التقليدية مع التلويح باتهامات تخرج الحوار برمته من مجاله الحقيقي إلى
ساحات تهبط به إلى أسفل سافلين.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط