الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

لماذا الصبر عند الصدمة الأولى الأكثر أجرا؟

الصبر عند الصدمة
الصبر عند الصدمة الأولى

وردت آيات قرآنية وأحاديث نبوية تحث على الصبر، ومنها ما روي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: «اتَّقِي اللهَ، وَاصْبِرِي» قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، -وَلَمْ تَعْرِفْهُ-، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى» رواه البخاري.

اقرأ أيضًا:

الصبر أنواعٌ وأشكالٌ، ولكن أعلى نوع منه: الصبر عند الصدمة الأولى، يقول الإمام الغزالي تعليقًا على قول سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما: [الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه:
- صبر على أداء فرائض الله تعالى فله ثلاثمائة درجة.
- وصبر عن محارم الله تعالى فله ستمائة درجة.
- وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى فله تسعمائة درجة.

وإنما فضلت هذه الرتبة مع أنها من الفضائل على ما قبلها وهي من الفرائض؛ لأن كل مؤمن يقدر على الصبر عن المحارم، فأما الصبر على بلاء الله تعالى فلا يقدر عليه إلا الأنبياء؛ لأنه بضاعة الصِّديقِين، فإنَّ ذلك شديدٌ على النَّفس؛ ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: «وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ به عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا»، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: « انْتِظَارُ الْفَرَجِ بِالصَّبِرِ عِبَادَةٌ».

وقال صاحب "بريقة محمودية": [(وأفضل الصبر ما عند الصدمة الأولى) أي عند فورة المصيبة وابتدائها قبل أن يحصل التسلي بشيء من التسليات؛ لكثرة المشقَّة حينئذٍ.

وأصل الصدم الضرب في شيء صلب ثم استعمل مجازًا في كلِّ مكروهٍ ووقع بغتةً، ومعناه: أن الصبر عند قوة المصيبة أشدّ، فالثواب عليه أكثر؛ فإنّ بطول الأيام يتسلى المصاب فيصير الصبر طبعًا، وقد بشر الله تعالى الصابرين بقوله تعالى: «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» [البقرة: 156-157]].

ويقول الشيخ ابن عربي: [وإذا فاجأك أمر تكرهه فاصبر له عندما يفجؤك؛ فذلك هو الصبر المحمود، ولا تتسخط له ابتداء، ثم تنظر بعد ذلك أن الأمر بيد الله، وأن ذلك من الله؛ فتصبر عند ذلك؛ فليس ذلك بالصبر المحمود عند الله الذي حرَّض عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد مرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بامرأةٍ وهي تصرُخ على ولدٍ لها مات فأمرها أن تحتسبه عند الله وتصبر، ولم تعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت له: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي؛ فقيل لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فجاءت تعتذر إليه مما جرى منها؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى»].

والسؤال هنا لماذا كان الصبر عند الصدمة الأولى هو أفضل أنواع الصبر؟
يجيب على ذلك صاحب "قوت القلوب" بقوله: [فأما اشتراط الصبر في المصيبة عند الصدمة الأولى في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى»؛ فلأنه يقال: إن كل شيء يبدو صغيرًا ثم يكبر إلا المصيبة؛ فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر، فاشترط لعظم الثواب لها عند أول كِبَرِها قبل صغرها وهي في صدمة القلب أول ما يبغته الشيء، فينظر إلى نظر الله تعالى فيستحي فيحسن الصبر كما قال: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور: 48]، وهذا مقام المتوكلين على الله تعالى].

ذكر الفخر الرازي في "تفسيره": [قال عليه السلام: «الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى» وهو كذلك؛ لأن من ظهر منه في الابتداء ما لا يُعدّ معه من الصابرين ثم صبر، فذلك يُسمّى سَلْوًا وهو مما لا بد منه، قال الحسن: لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه، والله أعلم].

ولفت الإمام القرطبي في "تفسيره": [لكن لا يكون ذلك إلا بالصبر عند الصدمة الأولى، كما روى البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى» وأخرجه مسلمٌ أتم منه، أي إنما الصبر الشَّاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها، فإنه يدل على قوَّةِ القلب وتثبته في مقام الصبر، وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحد يصبر إذ ذاك].

لكن هل إظهار شيء من الجزع ابتداء يتعارض مع وجود أصل الصبر والرضا؟

كما علمنا فإن الصبر عند الصدمة الأولى من أعلى أنواع الصبر، ونجد الإمام ابن عجيبة في "تفسيره" يقرر بأن إظهار شيء من الجزع لا ينافي أصل وجود الصبر والتوكل، فيقول بصدد تفسيرٍ لما صدر عن السيدة مريم ابنة عمران عليها السلام حينما فوجئت بحملها، كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ [مريم: 23]: [ويؤخذ أيضًا من الآية: أن فزع القلب عند الصدمة الأولى لا ينافي الصبر والرضا؛ لأنه من طبع البشر، وإنما ينافيه تماديه على الجزع].

فضل الصبر على المصائب والمرض وفيروس كورونا، ورد ذِكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعًا في موطن المدح والثناء والأمر به، وذلك لعظم موقعه في الدين، وقال بعض العلماء: كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر، فإنه لا يحصر أجره لقوله تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» (الزمر 10)

خطأ في فهم الصبر
تحصر الناس الصبر في نوع واحد وهو الصبر على البلاء، ولكن للصبر 4 أنواع، وهي:  صبر على البلاء وهو: منع النفس عن التسخط والهلع والجزع، وصبر على النعم وهو: تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبر بها، وصبر على الطاعة وهو: المحافظة والدوام عليها، وصبر على المعاصي وهو: كف النفس عنها.

فضل الصبر على المصائب والأمراض
يحصل الصابر على المصائب والأمراض -أولًا-: على الثواب العظيم في الآخرة قال تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ».
ثانيًا: محبة الله قال تعالى: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ».

ثالثًا: الجنة لمن صبر على البلاء في الدنيا قال عطاء بن أبي رباح: قَالَ لي ابنُ عَبَّاسٍ: ألَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِن أهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلتُ: بَلَى، قَالَ: هذِه المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أتَتِ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقَالَتْ: إنِّي أُصْرَعُ، وإنِّي أتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ ولَكِ الجَنَّةُ، وإنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أنْ يُعَافِيَكِ فَقَالَتْ: أصْبِرُ، فَقَالَتْ: إنِّي أتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لي أنْ لا أتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا» (متفق عليه). 
رابعًا: تحقق معية الله للصابرين قال تعالى: «وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».

خامسًا: خير عطاء من الله للمؤمن كما ورد في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ».
سادسًا: لذة الإيمان وحلاوته لمن صبر على ترك المعاصي، «وكذلك ترك الفواحش يزكو بها القلب وكذلك ترك المعاصي فإنها بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن».
سابعًا: للصابر ثلاث بشائر بشر الله بها فقال تعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».
ثامنًا: المسلم إذا مات بفيروس كورونا فهو شهيد آخرة، فيكون له أجر شهيد في الآخرة، لكنه في الدنيا يطبق عليه ما يطبق على الميت العادي، من غسل وكفن ودفن وصلاة عليه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».


_________________
المصادر:
دار الإفتاء
- "قوت القلوب" لأبي طالب المكي.
- "إحياء علوم الدين" للغزالي.
- "الفتوحات المكية" لابن عربي (4/ 283).
- "بريقة محمودية".
- "التفسير الكبير" للفخر الرازي.
- تفسير "الجامع لأحكام القرآن" للإمام القرطبي.
- "تفسير البحر المديد" لابن عجيبة.