الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هند العربي تكتب: رجل من ذهب .. ولكنه ذهب!

صدى البلد

لم يكن ابدًا من سكان الكمباوند أو القصور الفاخرة، لم يكن من مالكي الفيلات أو السيارات الفارهة، وجهه البشوش وجسده النحيل يحملان اللون البرونزي، الذي لم يحصل عليه نتيجة استرخاءه علي شواطئ الاستجمام الصيفية خلال رحلات السفاري أو نزهاته الترفيهية، إنّما أهدته إيّاه ايام كثيرة قضاها وليالي أكثر سهرها مؤديًا لعمله الانساني الذي أفنى شبابه وعمره فيه، بل ظل يعمل من اجل خدمة الانسانية ومساعدة الاخرين إلي آخر دقيقة في عمره.. يطالع الجميع بعينين راضيتين ونفس قنوعة مطمئنة. 

خطوط وجه كفيلة وحدها بأن تحكي لنا عن السنون التي تركت لمساتها على محياه، فكونت تلك الأخاديد والحفر التي اتخذت طريقها على وجنتيه وتحت عينيه، تروي لنا قصة كفاحٍ عاشها هذا الكبير، إنه الدكتور محمد مشالي  "طبيب الغلابة" الذي لم يكن يعرفه غير الغلابة، ثم شاءت إرادة الله أن نعرفه و يعرف الجميع قدره بعد أن ذاع صيته و غمرت شهرته "التي لم يكن يومًا من الساعين إليها"  كل مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرًا  . قبل أن يتركنا ويذهب اليوم إلي المكان الذي أراد له الله أن يحصد فيه نتاج ما قضي العمر كله يزرعه .

أوصاه والده وهو علي فراش الموت خيرا بالفقرء و كان أمينًا في تنفيذ الوصية إلي أن سلم الأمانة لخالقها .. اعتذر عن قبول التبرعات ورفض تجهيز عيادة جديدة له في أشهر شوارع مدينة طنطا  .. بكي كثيرًا حين تذكر واقعة كان  لها بالغ الأثر علي شخصه وشخصيته.

ففي بداية مشواره المهني وعند تعيينه في إحدى الوحدات الصحية بمنطقة فقيرة، جاءه طفل صغير مريض بمرض السكر وقد اشعل النار في جسده بسبب حقنة الانسولين التي اراد توفير ثمنها لاخوته، بعد أن قالت له والدته ( لو اشتريت حقنة الأنسولين مش هنقدر نشتري طعام  لاخواتك)، وكان هذا الطفل سببا في علاج ملايين المصريين بمقابل مادي ضئيل وأحيانًا بلا مقابل!

منذ ان قرأت عن الدكتور مشالي وانا اقف امام صورته حائرة، ذلك الشيخ المسن صاحب الملامح المميزة التي تجسدت فيها الطيبة و الرحمة تشققات جلده و تعبيرات وجه الكادح وعمله الذي أكل أجمل سنوات عمره، وأفني نفسه لأجل "الغلابة"..  في بداية الامر لم اتخيل انه طبيب، ليست تلك ملابس الأطباء المشاهير وليس هذا هندامهم الذي اعتادت عليه عيني.. رجل بسيط، ملابسه مثله بسيطة، أي نعم نظيفة، ولكنها جدا بسيطة  !
بساطة ملابسه وتلقائية تصرفاته واسلوبه الهاديء ونبرة صوته الرصينة والحزينة، ليس هذا تقليلا منه او من مظهره حاشا لله - ولكن كما قلت أننا اعتادنا علي شكل الطبيب "اللي بيلمع" خصوصا ان كان من اصحاب العيادات الخاصة والأسماء الرنانة، ولكنك أكثر بريقًا يادكتور مشالي من كثيرين  .. مع احترامنا الكامل للجميع ..أنت أكثر ألقًا و تأنقًا.

فأنت ممن قال فيهم النبي الكريم  صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: (من نفَّسَ عن مؤمنٍ كُربةً من كُرَبِ الدنيا، نفَّسَ اللهُ عنه كُربةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ. ومن يسّرَ على معسرٍ، يسّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرةِ. ومن سترَ مسلمًا، ستره اللهُ في الدنيا والآخرةِ. واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه).

طبيب الغلابة الذي لم يعرفه احد من قبل من خارج اهل قريته، و الذي انهالت عليه التعليقات السخيفة عندما نشر له صورة اثناء تكريمه وهو يرتدي ملابسه البسيطة، ونتاج تلك السخافات عرف الجهلاء من يكون ذلك الكبير بالصدفة، نعم بالصدفة تعرفنا علي قمة علمية وانسانية كبيرة مثل دكتور مشالي من خلال بوست علي وسائل التواصل الاجتماعي " فيس بوك" وعلي النقيض تماما، كانت الصدفة العجيبة التي تعرفنا بأمثال المغني "المشطشط" و "المفلفل" و " المتنطط"، ومطرب التوك توك وربما وميجا وشيكا واسماء كثيرة يخجل لساني عن وصف أصحابها بالفنانين وهم لا ينتسبوا للفن من قريب او بعيد، ولكن جمعتهم الصدفة او الصدمة التي جعلت منهم في غفلة من الزمان نجومًا للفن والطرب و العياذ بالله!
و يال تلك المفارقة اللعينة،  ان تعرفنا بامثال دكتور محمد مشالي الذي عاش طيلة حياته في خدمة الفقراء والمحتاجين من المرضي ولم يسعي يومًا للشهرة او الكسب من وراء علمه، وفِي نفس الوقت منحت نفس الصدفة كثيرين من نجوم الفن والتمثيل ان يلقب بعضهم بـ نمبر وان و نمبر تو، و نسمع عن الفنانة الفلانية التي تطلب 5 مليون كي تشارك بمداخلة مدتها 30 دقيقة علي احدي البرامج الشهيرة بالفضائيات.

إذًا.. الحالة التي نعيشها اليوم والتي يقف امامها العقل حائرا فيما يشاهد ويسمع، وتعجز كل الكلمات الاعتراضية عن وصفه أو التعبير عنه يدفعنا إلي ان نعيد ترتيب الامور مراجعة الحسابات من جديد ووزن الاشياء واعطاء كل ذي حق حقه الذي بالفعل يستحقه، قبل ان نكتفي بنعيه فقط علي صفحاتنا .

وها هو الدكتور محمد مشالي، قد ذهب إلي حيث سنذهب جميعًا وسيذهب كل من حل ضيفًا علي ظهر كوكبنا هذا،  ذهب "طبيب الغلابة " بجسده ولكن بقيت سيرته تضيف أعمارًا كثيرة إلي عمره الذي أفناه في خدمة ملايين المصريين دون السعي الي الكسب او الشهرة او أخذ المقابل حتي بكلمة شكر!

رحم الله رجلًا من ذهب آمن بأن الطب رسالة إئتمنه الله علي إيصالها وليست مهنة سيكنز الذهب من وراءها، رحم الله طبيب الغلابة .. رحم الله الدكتور محمد مشالي.