الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إرهاب في فيينا .. أزمة الفهم الخاطئ!


ضرب الليلة الماضية العاصمة النمساوية الجميلة فيينا عملٌ إرهابي خسيس أسال الدماء وأودى بحياة أبناء من شعب مسالم، وأصيب آخرين بينهم إصابات بالغة الخطورة. 

إنه العمل الأول بهذا الحجم الذي يستهدف النمسا ذلك البلد المسالم والذي يمثل قمة مبادئ وقيم الحضارة الحديثة والتي يأتي على رأسها الحرية والمساواة والتعايش، وقبول الآخر، إننا إذا أردنا أن نرى الرقي متمثلا ونرى العدل يمشي على قدمين فلن نراه في أي مكان في العالم مثلما نرى ذلك في دولة النمسا، ولن نراه في حقبة تاريخية، مهما أضيف لها من خيال القصاصين الثري، مثلما نجده في هذا الزمن في هذا البلد الذي يجعل الجميع، أمام القانون، متساويين كأسنان المشط. 

وإذا كان هناك من يزعم أن دولا تتعرض للإرهاب من الإسلاميين لأن هذه الدول تتخذ موقفا عدائيا من الإسلام أو من القضايا الإسلامية أو تحارب دولا إسلامية أو لأنها صنعت الإرهاب وصدرته للعالم أو لغير ذلك من أسباب أراها، حتى لو سلمنا بصحتها، واهية، فليست الشعوب، إن حدث كل ذلك، هي التي تفعل ذلك، ذاك الذي لا يمكن أن ينطبق على النمسا في كل الأحوال فهي دولة حياد وسلام ولا تنتمي بحال من الأحوال لهذه الفئة من البلاد التي يضعها المسلم، ليس الإرهابي فحسب، في قائمة أعداء الأمة، فلم نعرف لها موقفا معاديا لدولة إسلامية، ولم تعلن هي يوما رأيا ضد القضايا العربية أو الإسلامية، ولم تساعد هذه الدولة أو تلك في حرب على بلد إسلامي، وفوق كل هذا تعمل بكل طاقتها السياسية، ولها في السياسة الدولية دور كبير لما تتمتع به من حيادية مرة، وما لها من خبرة ممتدة في التاريخ مرة أخرى لإرساء السلام وتحقيق العدل. 

أما موقفها من اللاجئين فهو موقف مشرف يعكس نبل خلق هذا الشعب الطيب، الذي استقبل اللاجئين المسلمين بالورود قبل المأكل والمشرب الذي كان شباب المدارس والجامعات يبذلون في شرائه وتحضيره وتجهيزه الشيء الكثير، هذا الشعب النمساوي الرائع خرج يستقبل اللاجئين في مشهد لن ينساه التاريخ، بل سيسجله بماء الذهب على صفحات من نور، لأنه كان مشهد انتصار الإنسانية، ولأنه كان الدليل الحي على الأخوة الإنسانية في معانيها العميقة. 

أما أن نتحدث عن تلك الرعاية التي أولتها النمسا لهؤلاء لكل المقيمين على أراضيها وللاجئين، الذين كلهم مسلمون، كذلك،  فحدث في ذلك ولا حرج، فلم يخطر على بال هذا المقيم وذلك اللاجئ مهما تمتع بخصوبة في الخيال أن يلقى هذه الرعاية التي لم تكن لتحدث إلا إذا قدم الإنسان النمساوي فتورتها من عرق ونَصًبٍ أوصلت بلاده لهذا المستوى المعيشي الرائع الذي تمتع به اللاجئون كما يتمتع به كل من يقيم على أرض هذه البلاد الخيّرة. 

هذا الذي فعله النمساوي، فأوصل به طيب نفسه إلى هذا الرقي، وأوصل به بلاده إلى هذا المستوى لم يكن ليحدث إلا إذا آمن النمساوي، كما يؤمن كل من ينتمي للحضارة الحديثة، أنه يمكننا أن نصنع الجنة على الأرض ولا ننتظر أن نحصل عليها فقط في السماء كما يعدنا الدين. 

هذه الجنة التي يسعى الإنسان النمساوي إلى تحقيقها على الأرض، هي الفارق الجوهري بينه وبين الإرهابي الزاهق للنفس القاتل للبشرية، فالأخير أفهمه "الدين" أن الجنة في السماء فقط في الآخرة التي هي عكس الحياة الدنيا التي هي نصب وتعب، تلك التي هي مذمومة لأنها حقيرة، ولأن دورها فقط أن تنقلنا إلى العالم الآخر الذي هو الحور العين وكل ما طاب من الملذات، وهنا، ولأن هذا الإنسان، لا يستطيع ان يصنع الجنة على الأرض وهو شقي في هذا العالم الأرضي، فمن هنا تهون هذه الحياة في عينه وتهون معها كل حيوات الإنسان مهما كان هذا الإنسان، ومهما كانت أخلاقه، ومهما كانت إسهاماته في رقي النوع البشري. 

هذا هو الفارق الجوهري بين قناعات وإيمان المحبين للحياة المقبلين عليها، وهؤلاء الكارهين لها، المبغضين الحاقدين على الإنسانية، وهذا هو الذي يجعل إنسانا يعمّر الأرض ويحفظ الأنفس وآخر يخرّب الأرض ويزهق الأرواح. 

إن الدماء الطاهرة التي سالت على أرض النمسا الجميلة هي بكل تأكيد لا سبب خلفها سوى هذه القناعة لدى الإرهابي القاتل في أنه يفعل فعلا محمودا ينتظر جزاءه من خالق أمره باستباحة الدماء وزهق الأرواح وقتل الأبرياء إنه إله سادي عاشق للدماء والقتل. 

نحن هنا قبل أن نتساءل من أين أتت لهذا القاتل الإرهابي المجرم هذه القناعة؟، ستقفز الإجابة في وجوهنا أن الدين لا يبيح ذلك وأن هؤلاء المرقة هم خوارج العصر، وأنهم يفهمون الدين فهما خاطئا، نعم ستكون هذه هي الإجابة التي اعتدنا عليها، ولكنها لا تفسر تفسيرا مرضيا شاملة! لأن هؤلاء القتلة الإرهابيين من الكثرة بمكان، ولأنهم منتشرون في كل بقاع الأرض وأنهم يستحلون الدماء فى كل مكان، وإن كان الأمر كذلك، فالسؤال التالي هو ما يجب أن نجيب عليه بكل وضوح: لماذا لا يتم تصحيح هذا الفهم الخاطئ لهؤلاء القتلة الإرهابيين؟. 

إن هذا الفهم الذي يقال عنه خاطئا لهو فهم قطاع غير قليل من المسلمين الذين نرى منهم فريقا آخر يتشفى في القتلى وفي الشعوب الأخرى، فهل هذا يتفق مع أي دين فضلا عن الإنسانية؟.

ذلك الذي يدعونا للاعتراف بأننا نمر بأزمة، هذه الأزمة التي نحن فيها غير وحيدين، بل مرت وتمر بها كافة الحضارات وكل الأديان، وإن آمنا بذلك فإننا سنعمل حتما على إنهاء تلك الأزمة هذا الذي سيعود علينا بالخير كله وعلى الإنسانية بالسلام والمحبة. 

إن الحادث الإرهابي الذي وقع فيينا ليلة أمس لهو كفيل إن توفرت النوايا الحسنة أن يضعنا أمام أنفسنا، وأن يعلِمَنا أننا في حاجة إلى جهد جهيد لنتصالح مع أنفسنا ونتصالح مع الآخرين.


المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط