الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

قلت لابنتي: الباحث الجاد لا يدخل عقيدته معه إلى المعمل!


جاءني صوتها، وأنا منهمك في مشاهدة مباراة في كرة القدم، من غرفتها مناديا: بابا أريد مساعدتك! فتركت المباراة وذهبت لها فطلبت مني الجلوس لأساعدها في اختيار موضوع لبحث عليها أن تقوم به في العام القادم للحصول على دبلومة، وكانت قد ذكرت سابقا للمشرف على هذا البحث أنها ستختار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي موضوعا لبحثها، وكان قد أبدى موافقة، ولكنه أخبرها اليوم أنه غير موافق على هذا الموضوع، مبديا أسبابا رآها موضوعية، وهي أن تلك القضية لها أكثر من وجهة نظر: فهناك وجهة النظر الفلسطينية والتي يقابلها وجهة النظر الإسرائيلية، وهناك كذلك وجهة نظر عربية تختلف عنها وجهة النظر الأوروبية، وهناك وجهة نظر إسلامية تتعاطف مع الفلسطينيين والعرب، في مقابل وجهة نظر أمريكية تتماهى مع وجهة النظر الإسرائيلية.


وتفهمتُ وجهة نظر المشرف النمساوي، فتعجبت ابنتي من ذلك، فأردت أن أزيل هذا التعجب فذكرت لها: إن أستاذك كان موافقا في الماضي على أن تقومي بهذا البحث، ولكني من خلال ما تقصينه عليّ من مواقفك الحماسية دفاعا عن كل ما هو عربي وإسلامي، إذا ما ذُكِر شيء عنهما من الزملاء أو في قاعات الدرس، ذلك الذي أراه طبيعيا، خاصة في ظل شعور متأصل داخلنا، له ما يبرره، أن هناك تصورا، في أحسن الأحوال، غير جيد عن العرب والمسلمين، ذلك الذي ينفث داخلك الاستعداد الدائم للدفاع والحماسة المستمرة لتأكيد عكس تلك الصورة، هذا الذي هو عينه، في تصوري، الذي جعل المشرف يذهب، وله الحق في هذا المذهب، في أنك لن تستطيعي البحث بالتجرد الذي يليق بالباحث.


في الحقيقة كانت هناك رغبة دفينة في أعماقي أن يكون هذا الموضوع هو مادة البحث الذي تتناوله ابنتي، وهنا ذكرت لها أنها لن تستطيع أن تصبح محايدة، فاتفقت معي في ذلك، فقلت لها حينما تشعرين بأن لديك القدرة على التفريق بين العاطفة التي تتملكنا، وبين قواعد البحث الصارمة والمحايدة يمكنك أن تتناولي هذا الموضوع، خاصة وأن له في أعماق أعماقنا مكانة، لا أظن أننا نستطيع أن نخفيها فيما نكتب ولا فيما نفكر ولا في حديثنا، مهما حاولنا ذلك، وسألتها سؤالا: هل يمكنك أن تعقدي مقارنة تفصيلية تفضيلية محايدة بين عائلتنا "عائلة البيبة" وعائلة نمساوية ولتكن عائلة "Baumann" مثلا، وفي نهاية هذه المقارنة تخرجين بنتيجة محايدة تفضلين من خلالها العائلة النمساوية، إن كانت هذه هي نتيجة البحث؟! فارتبكت ولم تستطع الإجابة! هنا قلت لها: حينما تستطيعين فعل ذلك، فيمكنك اتخاذ قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي موضوعا لبحث علمي لك، وأكدت لها أن على الباحث الحق ألا يقوم ببحثه وفي نيته أن يصل لنتيجة مسبقة، فالنتيجة تكون بعد البحث، لا قبله، من خلال منهج علمي صارم ينحي فيه الباحث أفكاره المسبقة وعقيدته، وإيمانه، فكما يقولون فإن الباحث لا يدخل عقيدته معه إلى المعمل، وضربت لها، في هذه اللحظة، مثلا عن باحثين إسرائيليين نقبوا عقودا في سيناء على أثر لسيدنا موسى الذي استمر في "التيه"" هو وبني إسرائيل فيها لمدة أربعين عاما، كما تقول الكتب الدينية، في سيناء، ولكنهم لم يجدوا لذلك أثرا، وهنا، لأنهم باحثون جادون، لم يلفقوا نتيجة لتتفق مع الرواية الدينية، وأعلنوا نتيجة بحثهم، وأنهم لم يجدوا أثرا لذلك.


وفي النهاية طلبت منها أن تأخذ فترة من التفكير، وتختبر قدرتها على الحياد، فإن أيقنت أن لديها هذه القدرة، فتعود إلى المشرف لتصر على الموضوع وأنا سأشجعها على ذلك، وإلا فلتختر موضوعا آخر يناسب قدرتها في التجرد من العاطفة، فسألتني: هل كان يمكن لي أن أخوض في هذا البحث لو كنت مكانها؟!. فكانت إجابتي: لو أنا في مصر، ربما لم أتردد في اتخاذ الموضوع مجال بحث، ولكني هنا أشعر بأن  عليّ واجب الدفاع عن الرؤية الفلسطينية والعربية والإسلامية، مهما كانت النتائج التي يمكن أن يوصل لها البحث المحايد، وضربت لها هنا مثلا بـ
رودولف كارل بولتمان (بالألمانية: Rudolf Bultmann)‏ (ولد في 20 أغسطس 1884 – توفي 30 يوليو 1976) وهو لاهوتي ألماني من خلفية لوثرية كان أستاذ دراسات العهد الجديد لثلاثة عقود في جامعة ماربورغ. قام بفصل كامل تقريبا بين التاريخ وبين الإيمان وكتب أن صلب المسيح فقط يكفي للإيمان المسيحي، والذي كان يقول أنه كان يخرج من درس التاريخ محطما، نظرا للنتائج التي كان يحصل عليها من مناهج البحث الصارمة، والتي كانت تتعارض تعارضا كاملا مع ما تقره الروايات الدينية.


وأكدت لها أن القضية ليست من البساطة بمكان وإلا كانت قد تم حلها، فهي معقدة تاريخيا وعقائديا وسياسيا ودوليا، ففيها تشابكات هائلة، يريح الناس فيها أنفسهم بتأكيد تحقيق الوعود الدينية عند الأطراف المختلفة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط