الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مصطفى الشيمى يكتب : حقيبة الصور

صدى البلد

جلس يشاهد المسرحية الكوميدية ولم يضحك كما اعتاد ، ظل يرنو بعينيه إلى نافذة حجرته ، يحاول أن يقتنص  بصيصا من النور ، ولكن قطرات المطر تراكمت على زجاج النافذة و ذلك جعل الرؤية ضبابية وشبه مستحيلة . 

شعر بالإرهاق الشديد فحاول أن يستريح فى جلسته لكنه وجد مجهودًا أكبر فى صلب طوله ، كان يتحرك ببطء و يجر قدميه بصعوبة . مازالت الصور والأوراق التى لم يتفحصها بجواره وكلما انتهى من فحص شئ أعاده بداخل الحقيبة مرة أخرى . كان فى يده خطابات من الورق الخفيف الذي بهت لونه ، وصورًا تفوح منها رائحة السنين ..

لاحظ أن التراب قد التصق بجلد الحقيبة الأسود الباهت فقام يبحث عن قطعة قماش لتنظيفها ولم يجد ، كانت ابنته تتابعه فى ذهابه وعودته .. وعندما قالت له عن ماذا تبحث .؟  لم يجبها .. ثم دخل الحمام وتناول قطعة قماش جافة من كومة الغسيل وفتح الماء على طرفها وعصرها جيدًا وأخفاها وراء ظهره ، وسمعها وهي تقول له أن الملابس النظيفة مرتبة فى الدولاب ولكنه مشى من أمامها إلى الحجرة الأخرى دون رد...ما أن انتهى من مسح جلد الحقيبة بقطعة القماش حتى توهج لونها وصارت حقيبته القديمة التى كان يحبها ، شعر بالضيق من عدم عنايته بها قبل الآن ، أعد قهوته فى كوبًا زجاجيًا ذو الأذن الواحدة و وضعه على رخامة الطاولة الصغيرة وتناول الصور واحدة تلو الأخرى ، الصور معظمها بالأبيض والأسود حتى الألوان منها كانت باهتة .

 فالحقيبة ممتلئة حتى آخرها بنسخ من رسائل كتبها و لم يرسلها وتقارير طبية و جواز سفر منتهى و صور فردية له وأخرى تجمعه مع آخرين . عثر على مجموعة كبيرة من صور لأعياد ميلاد و الصالة مزينة بشرائط وبلونات ملونة وقد امتلأت بأطفال تلبس طراطير ورقية ، وآخرين يجلسوا وبأيديهم أطباق الحلوى ، وجد صور لأطفال تركهم صبيانًا وصاروا الآن شبابًا . كانت في يده صورة كبيرة ولامعة ومثنية الأطراف وهو يجلس في ركن على الأرض وقد أراحت زوجته رأسها على قدميه المثنيتان ، وكانا يضحكان بعين الكاميرا . تناول صورة أخرى كان يقف فيها وسط خمسة من العمال وكان يمد ذراعيه على كتفى الملازمين له ويتطلعون للكاميرا و الضحكة تملأ الصورة رغم العناء الواضح على ثيابهم ... فتح سوستة الحقيبة الجلدية و أفرغها على السرير فلم يجد العديد من الصور ، الأمر الذى جعله يدرك أن يدًا ما عبثت هنا ولم تعد شئ إلى مكانه .. وجد صورتين وقف أمامهم كثيرًا وضم شفتيه ومدهما كمن يشم شاربه ، فالصورة الأولى كانت لصديق الطفولة الذي كان معجبًا به وبشعره الكثيف و بلونه الذهبى الذى كان يفرقه من الجنب ويجعل له مقدمة عالية وكان يعطى جانبه للكاميرا بينما يميل بوجهه بابتسامة عريضة وعينين متألقتين . صورة تجذب العين على الفور عليها كلمات للذكرى وتاريخ التقاطها حتى لا تتوه فى الذاكرة بين عالم النسيان ، قارن هذه الصورة بصديقه الآن الذى يلهث بكرشه البارز وقد بدت رأسه ضخمة ممتلئه بالتجاعيد ولا توجد بها شعره واحدة ولم يجد فيه صديقه الذى كان يعرفه والذي ضيعهُ الكبر.

الصورة الثانية كانت تحمل له ذكرى سيئة أيضًا مع أحد الأصدقاء ولكن هذة الصورة قد قص صديقه منها واكتفى بضحكته النقية وحيدة فى الصورة ولكن بعد أن دارت الأيام وتأكد أن الحياة بها العديد من السقطات ، أعاد ترقيع الصورة مرة أخرى ولصقها ولكنه تأمل  ضحكته فشعر بأنها تغيرت وتأثرت بالترميم و اختلفت كثيرًا . ولكنه لم يوافق أبدًا أن يترك نفسه للأيام تقطع الصلة بينه وبين صديقه القديم  ، فكل إنسان لابد أن يبقى له شئ عند الآخر ، طريق موصول ، كلام فى أزمة ، رائحة صورة ، شئ مازال سليمًا فى هذا الجسد القديم ...

أودع ربطة الخطابات في الحقيبة ثم ترك الصور التى فشل فى تحديد هوية من معه و متى و أين التُقِطَت ... وحدث نفسه بأن مادامت الذاكرة لم تسعفه  فأنه أكثر حرية من أي وقت مضى .. جلس فى الصاله وأعاد فتح التلفزيون على نفس المسرحية الكوميدية وأمسك بالريموت وجعل الصوت مسموعًا .. وبدا يضحك كما اعتاد ..