كثير من المتحدثين والكاتبين يضع للنار حدودًا من خياله ،ويصف تضاريسها كأنه أنشأ شجرتها،ويهدد بها ويتوعد كأنه يملك مفاتيحها ،وكأن زبانيتها من عماله أو غلمانه.
واتجهوا بحديثهم عن النار جهة الإنذار وفقط.
مع أن القرآن الكريم تكلم ١عنها كلامًا فيه من التسامى ما ليس فى غيره ،ومن المعانى مالا يرد فى كلامهم ولايسيل على أقلامهم،
فالقرآن الكريم يحدثنا عن أن النار كانت جزءً من معجزات إبراهيم عليه وعلى نبينا والنبيين جميعًا الصلاة والسلام ((قلنا يا نار كونى بردًا وسلامًا على إبراهيم ))،وعن أنها كانت مقدمة من مقدمات الوحى فى رسالة سيدنا موسى عليه السلام ((إنى آنست نارًا لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ))وأريد بهذا النص أنه يريد استخدامها فى التدفئة أو سؤال من يجده عندها عن مساره ،ثم تطور الأمر إلى ((أن بورك من فى النار ومن حولها )).
وتحدث القرآن كذلك عن النار على أنها آية من آيات الله التى يجب الالتفات إليها والتفكر فيها ،((أفرأيتم النار التى تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون))،بل إن القرآن الكريم لم يتحدث عنها على أنها وسيلة إنذار وفقط ،بل وسيلة تنعيم أيضًا ،ألم تر إلى قوله تعالى ((نحن جعلناها تذكرة ومتاعًا))،
فإذا كان هذا مما ورد فى القرآن الكريم من حديث عن النار فلم حصرتم حديثها فى حديثكم أنتم ؟ولم جعلتم أنباءها قاصرة على ما ذكرتموه أنتم ؟
مع أن الله عزوجل حدثنا فى القرآن الكريم عن أنه أنقذنا منها فقال ((وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها)).
مع أن مواريثنا الأدبية تحدثنا حديثًا أوسع وأشمل وأغزر.
ففى صبح الأعشى للقلقشندى ستجد حديثًا عن ثلاثة عشر نوعًا من النيران عند العرب ،
:منها نار الحرب ونار القِرى ونار السليم ونار الوسم ونار مزدلفة ونار السليم ونار الغدرة ونار الخلعاء،وغير ذلك كنار الغيرة ونار الهوى ونار العشق والجوى ،وكثير من البلاد قديمًا كانت تستعمل النيران وسيلة للدلالة ومن ذلك أن البلاد المطلة على البحار كانت تنشئ فنارات ليستدل بها البحارة ،
واستعملوا النيران فى معانى الأشواق والحب بدافع الكمون والتخفى وشدة الإحراق ،وما من معنى من معانى الحب وإلا وفيه وقدة وجمرة ،ولهذا ترى المحبين دائمًا فى لظى،فإن لم تر ذلك حقيقة استشعرت به مما تراه من حالهم ومما تسمعه من مقالهم ،واستعمل التعبير بها كناية عن انتهاب حقوق الغير فجاء فى القرآن ((أكالون للسحت))وأوضح من هذا وأصرح قوله تعالى ((إنما يأكلون فى بطونهم نارًا))،ويستعملها العوام فى الكناية عن الحزن فتجد بعض الأمهات إذًا غضبت إحداهن من ولدها قالت :(أشرب نارك)،
والنار ميدان فسيح من ميادين الفلسفة ،ولروادها كلام شديد البسط عنها ،ومن ذلك الكلام ما يقبل ومنه ما يرفض .
ومن مسائلهم فيها أنهم قالوا بزوالها لأنها يأكل بعضها بعضًا ،ووافقهم ابن القيم رحمه الله فى ذلك مستدلًا بأن النار لم يقترن بها وصف الأبدية فى القرآن الكريم كما هو الحال فى الجنة ((خالدين فيها أبدًا))غير أنه رضى الله عنه رجع عن رأيه فقال ببقائها وعدم فنائها ،وباستقراء القرآن الكريم وجدنا ثلاث آيات تحدثنا عن خلد النار واحدة فى آخر سورة النساء وأخرى فى آخر سورة الأحزاب والثالثة فى آخر سورة الجن.
ووقائع الحياة تحدثنا بأن النار من مطلوبات الحياة ،ولك أن تتخيل بيتًا بلا نار ،كيف تكون الحياة فيه ،
لا تدفئة ولا مياه ساخنة ولا طبخ ولا حتى كوب شاى ،وهلم جرا.
والناظر فى النار يرى فيها اعتزازًا بنفسها فهى تميل دائمًا نحو الارتفاع ،وحتى إذا شاغلتها الريح أو الرياح مالت هنيهة ثم ارتفعت مرة ثانية ،
وكثرت الألفاظ التى تحدثنا عن أصوات النار حتى وصلت سبعة ألفاظ منها (المعمعة)،وكثرت كذلك أسماؤها وأوصافها وأسماء وقودها وأسماء دخانها كثرة تدهش القارئ والمتلقى على السواء .
ولجابر بن حيان كتاب ماتع عن علم النار ،يحدثنا فيه عن قدرتها على تحويل المعادن ،وهو كتاب تراثى قديم ،أما الكاتب هارولد وايت فله كتاب حديث عنوانه (إبداعات النار)يحدثنا فيه كذلك عن قدرتها على التحويل وأثرها فى الصناعة والكيمياء ،
والمشاهدة توقفنا على كثير من وجوه استعمالها فى كل ما يتعلق بحياتنا .
ومن ذلك أن الذين يستعملون الأسنان الصناعية أو البديلة التى يتم تركيبها فى أفواههم بعد نزع أسنانهم الطبيعية يعرفون أن الأسنان البديلة لابد من وضعها فى الأفران حتى تتشكل ،لدرجة أنها قد تحتاج (١٨٠٠)درجة مئوية ،وهو ما يزيد عن النار اللازمة لصهر الحديد،
والنار كما أنها وسيلة متاع وتعبير صادق عن الحب ،فهى تعبير كذلك عن الصحة الممتازة ،وعن العلة المهلكة ،واستعملت الحرارة لقياس كفاءة عمل الجسم فإن اعتدلت حرارته فذاك ،وإن انخفضت حرارته أو زادت فالمرض المرض ،وقد جاء التعبير النبوى عن الحُمّى ((بأنها من فيح جهنم ))وما ذاك إلا لشدة الحرارة والسخونة .
والجيوش تعبر دائما بتعبير قوة النيران كناية عن قدرتها على التدمير والبطش والانتزاع،والقرآن يقول ((كلما أوقدوا نارًا للحرب)).
وفى أيامنا الحاضرة بدأ الناس فى استعمال النار اسعمالًا غريبًا وعجيبًا ،وذلك أن الرفاهية عرفت طريقها إلى كثير من البلاد ،فبدأ سكانها فى اختراع أمور عجيبة ،ومن ذلك أن بعض سكان سويسرا يحرقون حيواناتهم الأليفة ويحولون رمادها إلى قطع من الألماس يتزينون بها فى قلائدهم أو أساورهم أو خواتمهم الماسية .
ثم بدأوا الآن فى حرق الجثث الآدمية وأخذ رمادها الذى يتراوح بين ٣-٤كيلوا جرامًا ويصنعون منها الألماس أيضًا ،وبدأت بعض الدول تقلد سويسرا فى هذا الأمر.
ولئلا يستغرب القراء أويكذبوا ،نقول لهم إن الألماس نوع نقى من الكريستال الذى يؤخذ من الكربون ،والكربون هو أكثر مادة موجودة فى الكون ولذا إذا احترق أى شيئ وجدت الكربون بكثافة .
وأى تاجر نجف ولو صغير يعرف أن الكريستال إذا تجاوزت نسبة الكربون فيه حدودًا معينة تقترب من الأربعين فى المائة بدأ يُعد فى الألماس.
وعليه فإن الذين يحولون رماد الجثث إلى ألماس يعمدون إلى وضعه فى درجة حرارة تعادل ١٨٠٠درجة ولمدة تتراوح بين أربعة وستة أسابيع حتى تتحول .
وذلك عمل مكلف ماديًا .
وحرق الجثث بالنار أمر معروف فى بعض الثقافات والمعتقدات ،لكن الجديد هو تحويل رمادها إلى ألماس .
ومن طريف أمر النار أن العرب قديمًا كانوا يضعون بعض الحطب الذى يصدر روائح زاكية حتى يستدل العميان بالروائح على مقاصدهم ،
وذكروا أن بعض الناس لا يزيده الأذى إلا تماسكًا وأدبًا ،وذكروا ذلك فى أشعارهم واقتبسوا المعنى من النار فقالوا:
(كعودٍ زاده الإحراق طيبًا).
وسبحان من جعل النار تذكرة ومتاعًا.