الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في التراث

 

ليس هناك أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات ولا مجتمع من المجتمعات إلا وخلفه تراث، وما من شك أن هذه الأمم وتلك الجماعات وهاتيك المجتمعات متفاوتة تفاوتا واضحا بما هو وراءها من تراكمات تراثية وحضارية، ولا يشذ المجتمع العربي عن ذلك، بل إن الأمة العربية قد أنتج تراثها الممتد قرونا في التاريخ حضارة حقيقية أفادت العالم، وكانت هي حلقة الوصل بين الحضارة القديمة والحضارة الحديثة، فلا ينكر دور هذه الحضارة إلا جاهل أو حاقد، ولا يتهاون بهذا الميراث العظيم، وأقصد به هنا التراث العربي الإسلامي، حيث أن للمصريين ميراثا آخر أعمق وأقدم وأطول مدة زمنية،  الذي خلفه لنا السابقون، لا يتهاون به إلا من لا يقدّر هذه الأهمية الهائلة له، وهذه المساهمة الفكرية والإنسانية التي ساهم فيها أجدادنا السابقون بسهم معتبر.

إن الخلاف بيننا وبين هؤلاء الذين يريدون إعادة عجلة التاريخ إلى الماضي السحيق ليس في مكانة التراث، وليس في الأهمية الهائلة له، وليس في قيمته الفكرية والعلمية والإنسانية، ولكن الخلاف الواضح كل الوضوح بيننا وبينهم هو في كيفية التعامل مع هذا الإرث العظيم، ففريق يريد أن يحافظ عليه بصيغته التي صيغ بها، بل أكثر من ذلك يريد أن ينزل على هذا التراث واقعَنا المعاصر، لا، بل إنه يريد أن يسقط التراث نفسه على الحاضر، وفريق آخر يريد أن يستثمر هذا الإرث العظيم استثمارا يناسب العصر، فينظر فيه ليستخلص ما ينفع منه للعصر، ويترك هذا الذي عفى عليه الزمن ولا يناسب العصور الجديدة، لأننا، أعضاء الفريق الثاني، نعلم وندرك أن كل إنتاج فكري هو نتيجة طبيعية للفترة الزمنية التي أُنْتِج فيها، والتي ساهمت تلك الفترة الزمنية بما شملت من أحداث وساد فيها من أفكار وسبغت من ثقافة، بشكل أو بآخر في صناعته وإنتاجه. والحال هنا كما أسرة ورثت ميراثا ضخما، واختلف أفراد هذه الأسرة في كيفية التعامل معه؛ فمنهم من يريد أن يحافظ على هذا الميراث ويصر على الحفاظ عليه كما ورثه بشكله وهيئته وصيغته، ومنهم من يريد أن يخضع هذا الميراث لاستثمارات العصر ليتم الإفادة المثلى منه من خلال استثماره استثمارا عقليا مناسبا، وهم في هذا الأمر يختصمون، كما نحن مختصمون في نظرتنا للتراث.

ولعلنا هنا نعود إلى ما كان قد ذكره الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر في تلك المناقشة التي جمعته مع رئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد عثمان الخشت حينما ذكر الإمام أن الإصلاح يكون في "بيت الوالد" والذي ذكرنا يومها: ماذا لو كان في بيت الوالد ما هو فاسد ولو استمر لهدد البيت كله بالانهيار أفليس من الأولى إزالة هذا الفاسد؟.

إن مشكلتنا ليست في هذا التراث العظيم الذي ورثناه، بل إن مشكلتنا في تلك الصلة التي ننشئها بهذا التراث، ففريق يعظمه تعظيما يكاد يصل به إلى التقديس، هذا الذي أعلن رفضا تاما له فضيلة الإمام الأكبر مؤخرا حينما ذكر: «إن الدعوةَ لتقديسِ التراثِ الفقهيِّ، ومُساواتِه في ذلك بالشريعةِ الإسلاميَّةِ تُؤدِّي إلى جُمودِ الفقهِ الإسلاميِّ المعاصر، كما حدث بالفعلِ في عصرِنا الحديثِ؛ نتيجةَ تمسُّك البعضِ بالتقيُّدِ -الحرفي- بما وَرَدَ من فتاوى أو أحكامٍ فقهيَّةٍ قديمةٍ كانت تُمثِّلُ تجديدًا ومواكبةً لقضاياها في عصرِها الذي قِيلَتْ فيه، لكنَّها لم تَعُدْ تُفيد كثيرًا ولا قليلًا في مُشكلاتِ اليوم، التي لا تُشابِهُ نظيراتِها الماضيةَ، اللهمَّ إلا في مُجرَّدِ الاسمِ أو العنوان».
وفريق آخر يحقّر هذا التراث ويهوّن من شأنه تهوينا كبيرا، وكلا الفريقين يضر به ضررا بالغا، فالمبجلون تبجيلا هائلا للتراث بنظرتهم تلك لا يخدمون التراث نفسه ولا يخدمون قضية التقدم التي يجب أن تسعى إليها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وفئة القادحين في التراث لا تخدم هي الأخرى نفس الهدف وهو التقدم الذي ننشده في مجتمعاتنا.

وليس من بد من اتخاذ طريق ثالثة نخضع فيها التراث لقراءة موضوعية، بعيدة عن كل تقديس، ومحمية من كل تحقير وتهوين، وهذا لن يتأتى إلا من خلال قراءة عقلية واقعية تضع الأمور في نصابها، وتبحث الأمور في سياقاتها، وتفحص النصوص غير منزوعة من واقعها التاريخي. هذا الذي يضع التراث في حيزه التاريخي، لا نخرجه منه، ولا نسقطه على زمن غير زمنه، فالذي لا شك فيه أن تاريخ المنتوج التراثي غير زماننا نحن، كما سيكون منتوجنا الثقافي الذي سيصبح للأجيال القادمة ميراثا، غير هذه الأزمان المستقبلية. وكما أنه لا يصح لمن يأتي بعدنا أن يسقط مشكلاته على ما سوف نتركه له من ميراث فإننا لا يصح بحال من الأحوال أن نسقط مشكلاتنا الراهنة على التراث، هذا الذي لو فعلنا لألوينا عنق هذا التراث لنخرج منه ما لم ينتج له، وما ليس فيه من الأصل.

إن من يقدمون أنفسهم على أنهم سدنة التراث غير صادقين فيما يزعمون، فإن أردنا الحقيقة فإنهم سدنة لجانب معين من هذا التراث يظنون أنهم بالحفاظ عليه كما هو فإنهم سيحققون ما تم تحقيقه في الماضي، ليس ذلك فحسب، بل إنهم يزعمون أن هذا الذي يحافظون عليه كما ورثوه، هو الذي حقق إنجازات الماضي الراغبين في إعادة إنجازها في عصر غير العصر وزمن غير الزمن وظروف تاريخية غير تلك التي صاحبت بل ساعدت في صنع إنجاز الماضي المبْكَى عليه. لأنهم لا يرون من التراث إلا لحظات محددة وأزمان بعينها، ويتجاهلون غيرها، بل يعدمون ما سواها.

وإذا أردنا أن نبرهن على ما نذهب فإننا نسألهم ببساطة شديدة: ألستم انتقائيين فيما تزعمون من حفظ للتراث؟ وإن كانت إجابتهم بالنفي فلنسألهم هذا السؤال الواضح والذي سينهي المناقشة بالضربة القاضية: أليس ما تركه المعتزلة من التراث؟ فهل لديهم الشجاعة للدفاع بنفس الحماس والقوة عن هذا التراث الاعتزالي؟!. وهل لديهم القدرة على الدفاع عن التراث الصوفي، أو التراث الفلسفي الإسلامي؟ هل لديهم الشجاعة على الدفاع عن الوليد بن رشد وهو من يفخر به التراث الإنساني وليس الإسلامي فحسب، فكل هذا من التراث، فإن أراد هؤلاء المدافعون عن التراث ألا يكونوا انتقائيين فعليهم أن يتعاملوا بالإنصاف مع كل أنواع التراث. لأنهم بانتقائيتهم هذه يقومون بفعل أيدلوجي بامتياز، لا بفعل موضوعي ولا بعمل محايد، إنهم يمارسون اغتيالا لنوع بل أنواع من التراث لصالح نوع واحد منه.

إنني أتفق مع الصورة التي قدمها الدكتور نصر حامد أبو زيد في علاقتنا بالتراث والتي يرسمها على النحو التالي: إن علاقتنا بالتراث كعلاقة الطفل بالأب، فالطفل الذي يتسلق ليعلو جالسا فوق كتف الأب هو بالضرورة يرى أبعد مما يرى الأب، هذه الرؤية التي لم تكن ممكنة لو أن هذا الأب قد حمل الطفل على أكتافه، فليس هناك أفضلية للطفل على الأب، ولكنه فقط استفاد منه ليرى أبعد منه، ومما لا شك فيه أن أجيال أبنائنا وتلاميذنا سنحملهم نحن أيضا على أكتافنا ليروا بالضرورة أبعد مما رأينا، وهذه هي طبائع الأشياء، فلا نقيصة هنا، ولا فضل هناك، ولكنه الزمن المتراكم المعرفة هو الذي يستمر في إضافة علوم ومعارف تمكن الأجيال الأحدث من النظر أعمق وأبعد مما خلفه السابقون، فما بالنا بهؤلاء الأوائل.
فالمعرفة ليست حكرا على زمن وليست حكرا جيل، فالمعرفة الإنسانية بشكل عام والمعرفة الدينية بشكل خاص في تطور مستمر.
ويستمر نصر حامد أبو زيد طارحا السؤال تلو السؤال فيقول: كيف نتعامل مع النصوص الدينية؟ هل النصوص الدينية بما هي نصوص مقدسة بحكم أنها من مصدر مقدس هل لا يمكن فهمها بمناهجنا الإنسانية؟ هل تحتاج إلى منهج خاص بما يعني وحيا آخر لكي نفهم الوحي؟ أم أن هذا خطاب وإن كان من مصدر إلهي ولكنه خطاب للبشر، ومن ثم مطلوب من البشر أن يفهموه ويستوعبوه وفقا للغة وطبقا لقدرتهم على هذا الفهم. هذا الذي يفتح المجال للإنسان لكي يتفاعل مع هذه النصوص الدينية المقدسة في إطار العصر.

 

 

 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط