الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

جلسة ثلاثية!

جلسنا ثالثتنا نتبادل أطراف الحديث، الذي أَخَذَنا في العديد من المجالات، كما هي الحال في مثل تلك الجلسات التي تجمعنا، والتي نختلف فيها كثيرا، ونتفق في بعضها، حيث أن مشاربنا الفكرية مختلفة، وتصوراتنا للحياة والكون متباينة، ومن ثم تحليلنا للواقع، كما رؤانا للمستقبل، ولكننا في النهاية، نفض الجلسة دون أن يفسد للود قضية، ولا أن تتأثر صداقتنا التي بنيت على تقدير الاختلاف واحترام العقائد، تلك التي اتفقنا ألا تحتقر أيها مهما بدت لغير معتنقيها، وهي جميعا كذلك، بعيدة عن العقل والمنطق.

بدأ صديقي الحوار بتعجب عن جملة سمعها شيخ مسلم، في البدايات الأولى لدخول الإسلام إلى شبه القارة الهندية من عابد هندي هذه الجملة هي: "اس جیسا کچھ نہیں ہے والتي ترجمتها: ليس كمثله شيء"، والتي هي جزء من الآية الكريمة في سورة الشورى: فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" وهنا طلب الشيخ المسلم من العابد الهندي أن يعيد ما ذكره، فأعاده، فسأله الشيخ: كيف تقول ذلك وأنتم لديكم ملايين الآلهة؟ فإذا بإجابة الهندي مذهلة: إننا لا نعبد تلك الآلهة ولكنها بالنسبة لنا كما الكعبة بالنسبة لكم.

وهنا اتفقنا على أن الإله الواحد هو المعبود لدى الجميع وإن اختلفت صور هذا التعبد، وذلك ربما بحكم نشأتنا الشرق أوسطية، والتي جعلتنا جميعا ننتمتي للديانات الإبراهيمية، تلك التي فرّدت الإله، بعدما كانت الديانات السابقة عنها كلها ديانات تعددية، حيث لكل مدينة أو قرية إله، والعجيب، أنه قبل الديانات الشمولية "الإبراهيمية" تلك، لم تقم حرب واحدة بسبب الدين، هذا الذي يؤكده علماء الأديان، وهذا ما يعكس معنى المقولة التي ذكرها يول ديورانت في كتاب قصة الحضارة: بأنه عكس ما كان متوقعا، جاءت الأديان التوحيدية، التي كان ينبغي أن توحد البشر، جاءت وجاءت معها الحروب على أسس عقائدية ومذهبية. تلك الحروب التي راح ضحيتها مئات الملايين من البشر عبر العديد من القرون.

وهنا ذكرت أن الحروب التي نشبت بسبب الدين، لم تكن لتتم، أو على أقل تقدير، لم يكن العديد منها يصبغ بصبغة دينية، ما لم تزعم كل عقيدة امتلاكها للحقيقة المطلقة، تلك التي تسعى لنشرها بالقوة أو فرضها فرضا على أتباع العقائد الأخرى، فأصحاب كل العقائد يجزمون جزما مطلقا أنهم فقط على الحق المبين، وما سواهم في ضلال مبين أيضا، ومن هنا يأتي تكفير أصحاب كل عقيدة، بشكل أو بآخر، لغيرهم من أصحاب العقائد الأخرى، وذلك لأنهم لا يعتنقون دياناتهم.

أكد على ذلك صديقي الذي استشهد بتلك الجرائم التي ترتكبها الجماعات الإرهابية التي تنتمي للأصولية الإسلامية، والتي تقتل باسم الدين، وتبرر كل ما تقترفه من إرهاب باسم الإله، مؤكدا أن العالم لم يشهد مثل هكذا إجرام.
هنا أخذت الكلام، وأكدت أن العنف الإسلامي الراهن ليس واحد على ألف من العنف الذي وقع من النازية أو الفاشية، وهذا بالطبع لم يكن دفاعا على العنف الإسلامي، ولكنه كان وضعا للأمور في نصابها، حيث أن العنف لا يرتبط بعقيدة دون عقيدة، ولا بأمة دون أمة، ولا بشعب دون شعب، ولكنه جزء من التكوين الإنساني، إذا ما وجد طريقه للخروج ولممارسته فإنه سينتشر كالنار في الهشيم، وأضفت أن ما حدث على سبيل المثال في محاكم التفتيش في أوروبا أكثر قسوة بمراحل من هذا العنف الإسلامي، وأن ما وقع من جرائم نازية لا تقارن بها هذه الجرائم الإرهابية باسم الدين الإسلامي، وأن ما حدث من الفاشيين من قتل وتقتيل يملأ كتبا عن أبشع أنواع العنف، ولقد كان الرابط بين كل تلك الأعمال الإرهابية الإجرامية رباط واضح هو الأفضلية التي يتصور تملّكها: الإرهابي الإسلامي أو أصحاب محاكم التفتيش أو كل من النازية والفاشية، فكل منهم يضع نفسه فوق الآخرين: إما بسبب العقيدة أو بسبب العرق.
وأضفت أن الفرق يكمن الآن في أن أصحاب كل من محاكم التفتيش أو النازيين والفاشيين قد واجهت شعوبهم أنفسها وعملت على تصحيح المفاهيم ومن ثم المسار، وهذا ما يجب أن نعمل عليه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

عاد صديقي إلى تلك القصة بين الشيخ المسلم والعابد الهندي يتساءل: هل الصورة التي وصلتنا عن كفار ومشركي قريش بهذه السذاجة التي تمثلها تلك الحكايا وأفلام السينما بأن الإنسان قبل الإسلام في شبه جزيرة العرب كان يصنع إلها من العجوة فإذا ما جاع أكل إلهه؟ فهل يمكن لعقل أن يتقبل مثل هذه الصورة؟!. وهل كان إنسان بمثل هذه العقيدة وهذه السذاجة بقادر على جدال النبي صلى الله عليه وسلم ورفض دعوته التوحيدية؟. أم أن ما وصلنا كان قد تم عن عمد له تشويه تلك الثقافة المنتشرة، وتصوير هؤلاء القوم بهذه السذاجة، هذا الذي لا ينسجم مع تلك المعركة الفكرية التي خاضها القرآن مع هؤلاء الناس، الذين شأنهم شأن غيرهم من الناس في عدم التخلي عن تلك العقيدة التي وجدوا عليهم آباءهم، هذا الذي ينسحب حتى اللحظة على الغالبية الساحقة من البشر، حيث يرث الأبناء عقيدة الآباء ومن ثم تتغلغل في نفوسهم وتستقر في قلوبهم، ولا يخضعونها للعقل، الذي ليس هو محل تلك العقائد، بل القلب.

هذا الذي يطلب من الإنسان المؤمن التسليم بما هو مدون في تلك العقائد، مهما كان لا يقبله العقل، هذا التسليم المبني فقط على الإيمان، لا لشيء سوى لأن كتاب هذا الإنسان المؤمن أو نبيه قد قال هذا الكلام وهو عنده، الكتاب والنبي جميعا، مقدس.

وهنا تدخلتُ في الحديث، مرة أخرى، مؤكدا على ما ذكره صديقي بأننا في الإسلام لدينا واقعة تثبت إثباتا هائلا هذا التصور، فحينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أُسْرِي به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، رفض ذلك، بالعقل، المشركون بطبيعة الحال، بل إن أمر الرفض امتد إلى المسلمين، ولكن كان هناك شخص واحد في هذه الواقعة صوّر الإيمان والتسليم والتصديق أوضح صورة، وهو أبو بكر الذي ذكر: لو أن محمدا قال هذا فقد صدق، وقيل أنه رضي الله عنه سُمِّيَ بالصديق بسبب هذه الواقعة.

فلو أخضعنا هذه الرواية للعقل لا يمكن بحال من الأحوال، أن تصح أو يُصَدَّق قائلها، ولكنه الإيمان هو الذي يمكن أن يرتفع فوق العقل ليصدق مثل هذه الحادثة، هذا الذي أكده أبو بكر حينما ذكر: إن كنت قد صدقتُه فيما هو أبعد من ذلك، صدقتُه في أنه يأتيه وحي من السماء، أفلا أصدقه في واقعة كهذه؟!.

إذاً هنا تم تجاوز العقل والمنطق، لأن العقائد، مهما حاول البعض غير ذلك، لا تخضع للعقل والمنطق، ولكنها حالة إيمان قلبي، بعد هذا الإيمان القلبي، تصبح تلك العقيدة هي المرجع الذي يقيس عليه المؤمن كل شيء، وهنا، والكلام مازال لي، تحدث المشكلة، حيث يتم قياس ما هو منطقي وعقلي ووضعي على ما هو قلبي إيماني. ويتم قبول كل ما جاء في دين ما وعقيدة ما باعتباره صحيحا وحقائق لا تقبل شك ولا النقاش ولا المراجعة، وهذا الذي يضع أصحاب العقائد في موقف صعب لا يستطيعون فيه التوفيق بين ما هو عقلي وما هو عقائدي. وبين الحقائق العلمية والمذكور في تلك الكتب المقدسة، وهذا نفسه مع التطور العلمي أضعف كثيرا العقائد في نفوس معتنقيها، وما ذلك إلا لإخضاع ما لا يمكن قبوله عقليا، إلى برهان عقلي لا يستقيم معه الإيمان، ليس ذلك فحسب، بل جعل الإيمان القلبي هو الحاكم على الحقائق العلمية والتجريبية.

 

 

 

 

 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط