الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

تجربة عم علي

هادي التونسي
هادي التونسي

عرفته منذ 20 عاماً، فى عاصمة أوروبية شهيرة ، ترددت عليها تكراراً . هاجر مصر منذ الستينيات لتوقف عمله الحر . لم تستطع فطرته الريفية النقية تحمل ما تحولت إليه سلوكيات كثيرين من التواء وتعقيد، تناقضت مع منطقه العملى المباشر . 

تزوج أوروبية حافظت مع ذريته على طابع سلوكى شرقى اصيل ومعاصر معاً ، لم يجد صعوبة فى الاندماج مع المجتمع الأوروبي المفتوح المتسامح . وحياة وعمل الاسرة قصة نجاح وترابط فى مجملها . 
       

جمعنى به أصدقاء مشتركون وود كريم شغوف ومتزايد، كان يعبر عنه من خلال لقاءات ومعلومات ونصائح ، عارضاً وقته وخدماته ، وهو ما جعل تجربتى كسائح أكثر عمقاً فى فهم ذلك المجتمع وحياة أجيال المهاجرين واحوال مصر وقت طفولتى.
       

عكست كلماته عن دوافع الهجرة مرارة الحرمان من وطن أحبه ، غادره جسداً وسكنته روحه ، ولم تستطع نوعية المعيشة الرغدة وسهولة التعامل والخدمات وما حوله من جمال ونظام وهدوء ان تخلب لبه أو تحتل مشاعره أو تغير خلقه ، مازال هو المصرى الأصيل القادر بتراكمه الحضارى على استيعاب العالم فى داخله ، دون ان يفقد شيئاً من كيانه ، يعكس ما أثرى تاريخ مصر من حضارات فرعونية وقبطية ورومانية وإسلامية وعربية ومعاصرة ، دون ان يختل اتزانه من تناقضات يدعونها بين تلك المكونات . 
       

هو ابن جيل برز فيه ادباء وفنانون وسياسيون ومفكرون وعلماء ، وصلوا بإبداعهم وتفانيهم وتمرسهم الى العالمية واحتلوا مناصب دولية ، استوعبوا التراث الإنساني دون ان يفقدوا محليتهم واصالتهم ، وأسهموا فى تحرير وبناء افريقيا والعالم العربى ، وجلبوا الى وطنهم احترام العالم ، وتقدير دول المهجر لمساهمات جالياته واندماجها السلمى بها .
      

 لا تظهر كلمات عم على المحبة الناقدة معاً عن أسباب هجرته من مصر شيئاً لا يعرفه كثيرون منا ، بل هى أقل مما تكتبه صحف المعارضة دون شك ، ولكن ما يثيرنى هو شدة الاهتمام والانتماء . فرغم مرور 40 عاماً على هجرته وحياته المستقرة الآمنة فى أوروبا ، مازال وطنياً متحمساً مؤمناً بقدرات بنى جلدته لو تجمعت اراداتهم البناءة نحو مستقبل رشيد . 
      

 طالما شعرت ان انتقادات عم على المتكررة – بغض النظر عن مدى واقعيتها – تبرير لاستمراره فى اختيار حياة الهجرة دون ان يشارك أو يعانى فى بناء مصر التى يريدها وتدور بخلده . وهكذا فان حفاوته بى تسير فى نفس الاتجاه ، واحياناً تبدو وكأنها طلباً لبلسم عقلى ونفسى وروحى يهدئ تلك الجذوة لوطنه أو يطمئنه على مصيره ويقنعه بمستقبل واعد للشباب المندفع نحو الهجرة بأية ثمن . 
       

يعيش عم على حالياً العقد الثامن من عمره ، وتأمينه الصحى والاجتماعى يكفل له معيشة آمنة ، ويعالج ما جلبه الزمن من تدهور لحالته الصحية . هذه المرة لم نلتق فى مقهى كالعادة ، بل زرته بالمنزل حيث يتحرك بأداة تساعد على المشى بعد عملية جراحية بعموده الفقرى .
       

عم على كان على حفاوته المعتادة ، ولكنه لم ينتقد شيئاً ، كان مفعماً بالمرح وهو يتذكر فترة شبابه والأفلام المصرية الفكاهية حينذاك . ولم أشأ ان اقاطع حكاواه . كنت مرتاحاً لرؤية ان روحه المصرية السعيدة أقوى وأعمق من مشقة الهجرة وسنوات الغربة الطويلة ومرارة الإحباط التى دفعته اليها .
      

 يقدم عم على لنا درساً بوطنية لاتخمد ، وبفطرة لاتنطفئ أو تتلوث ، وبانسانية تستوعب تراث العالم دون ان تفقد محليتها ، وبعقل واعى لايغيب أو يخضع ، وبهجرة لاتعنى التغريب أو الانكفاء أو فقدان الأمل والذات ، وبقيم لا تعرف التنازل .
       

إن عم على ابن جيل شهدت له منطقتنا والعالم ، وتجربته فى الحياة ليست فى جيله خارجة عن المألوف ، وربما كانت دروسها دافعاً لنا ، تلهمنا للإفادة من تجربة جيل بأكمله وهو مازال على قيد الحياة .