الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

وداعا سواكوبمند

هادي التونسي - طبيب
هادي التونسي - طبيب وسفير سابق

لم يكن الوداع سهلا، لطالما سحرتني تلك المدينة الناميبية الحالمة علي شاطئ الأطلنطي، لم أكن أدري ما بها تحديدا, فليست الأولى على محيط هادر، ومبانيها ليست الأكثر فخامة، وبرودة مياه المحيط قلما تسمح بالسباحة.
جاء سكني هذه المرة في فندق مطل على المحيط,الشقة الفندقية كل ما فيها أبيض متسع و بسيط بخطوط مستقيمة, لكن الأجهزة الكاملة هي الأحدث في الأسواق, ستائر اليكترونية و أنوار تختار الوانها و الموسيقي حتي في الحمام, مزيج رائع من البساطة الواثقة و الرفاهية الأثرة .
تلك الليلة ذهبت للعشاء في فندق كلاسيكي راق اعتدت لعامين النزول فيه و مداعبة عامليه. تعمدت أن أصل مبكرا فأرى المطعم خاويا ,كما لو كان شاهدا على حياة مضت,فأجلس خلف نفس المنضدة,أتذكر ما حدث كل مرة. لاحظت أن ذاكرتي أنشط من المعتاد, فانتبهت على وقع عزف علي بيانو بدا أليفا .
هل معقولا أن تكون القطع الموسيقية التي لم تثر إهتمامي قبلا بهذا الجمال؟.كيف إستطاع العازف أن يرتجل فيبدع ؟ أن يجعل الموسيقي المثيرة للإنفعال حالمة داعية للتأمل ؟ كيف جاء الإختيار منسجما مبقيا علي حالة مزاجية محبة و هادئة ؟.و علي تجربة حياة جميلة تبدو و كأنها ذكريات طفولة تستدعيها إبتسامة و سكينة ؟.
ذهبت أحييه, فوجدته ذلك العازف الذي اعتقدت أنه هاجر لغير رجعة. شكرت له أربعة أعوام من الإستمتاع بتميز فني إستمر بعد أن تعدى عمره الثمانين. وعلمت انه عازف عالمي مخضرم.لكن السر فيما أري  هو شعور سامي دافع,,كن جميلا تري الوجود جميلا.
قد يعجبك تميز و فخامة الفندق العريق,لكن أكثر ما يبقي في ذاكرتك الإنفعال الذي أثاره عازف حساس دارس ومجرب.و أنا أودع مدير الفندق الألماني صارحني أنه جاء سائحا منذ سنوات,لكن نفس تلك الجاذبية الساحرة دفعته للبقاء والعمل في المدينة التي سرعان ما أشعرته أنها الإختيار الأمثل.
سماء برتقالية وقت الغروب, و أمواج أصبحت هادئة,كما لو كانت فرغت من مهمتها.وداع لطيف يشبه عازف البيانو,و كأن الوداع مثل الموت,قبول و تسليم,و شكر على نعمة حياة صغري أو مرحلة حياة, أهداها قدر غامض حكيم,يبتسم صابرا إن اعتقدت أنها صدفة.
بعد جولة في شوارع المشاة و مقاهي و حوانيت المدينة,امتد الوداع وداعا لكل شئ, حتي البحر و الحيوان والطير,ففي رحلة بحرية في الميناء القريب,القارب السريع يختصر الزمن,و الطير يلاحقه. سرب من النورس و موكب من البجع.التقط الصور لتحيي الذكريات. يصعد "سبوتي" كلب البحر زاحفا علي سطح القارب, فيستقر علي رجلي يودعني بالإنابة عن كائنات البحر, بنظرة تدليل ومحبة وود.
سواكوبموند ليست صدفة بل نتيجة متوقعة,و ليست حلما بل حقيقة, يتسع فيها العيش للجميع, رغد السياحة و التجارة لسكانها البيض, و أجور الفنادق و المناجم و أعمال البحر و المواني و المصانع المجزية للعمال والفنيين السمر. هناك دافع للكل للحفاظ على حياة هادئة وديعة مريحة بل و أمنة, حتي أن الجيران يساعدون الشرطة اليقظة في مكافحة الجريمة بالتضامن فيما بينهم, تضامن يفترض صداقة وانفتاحا وودا موفورين, فلا عجب أن يتملك من الزائر شعوره بالراحة و السلام .
البحر يغسل الأحزان,و الناس يملأون النفس بالأمل و الدعة و الإنطلاق, والمدينة تسكن القلوب و تخلد الذكريات.