الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عم شحتة

هادي التونسي - طبيب
هادي التونسي - طبيب وسفير سابق

آخر ما كنت أتصوره أن أنسى المحمول في مكان بالقاهرة يتعذر العودة إليه؛ فالمحمول هو الرفيق و هو المعلم و هو المستشار؛ رفيق لأنه الأطول معاشرة و حافظ الأسرار، و معلم لأنه يحوي محركات البحث، و يتيح الاستفادة من معلومات الغير، و المستشار لأني أستشيره في المناخ و الوقائع و يحوي بذاكرته البيانات و التفاعلات و الصور و الوثائق،بما يجعل مشورته أساسية و ميسورة. لكني اليوم كنت في عجلة من أمري، متأخرا عن موعد مع صديق ينتظر في النادي بالدقي وحيدا نهاية مشاغل طالت بي في موقع آخر، و زاد الأمر سوءا ازدحام المرور، فوصلت إلى الموعد متضررا و معتذرا، و كانت ضريبة التوتر نسيان المحمول في سيارة الأجرة. ظل أصدقائي بالنادي يطلبون رقمي تكرارا حتي رد عم شحتة سائق تلك السيارة، فأعطاني رقمه، واعدا بإعادة المحمول بعد نهاية رحلة بعيدة لطريق الإسماعيلية،طال انتظارها، حتي عدت إلىي المنزل، و قابلت عم شحتة في مكان قريب مقدرا أمانته بمبلغ مالي، فخرج من السيارة طالبا أن يقبلني، قائلا إنه سيشتري لحما للأسرة، فرحته العفوية كانت جياشة، و ظل يؤكد أنه لا يأخذ الحرام، بل مرة أعاد حقيبة لزبون بها ثمانون ألف جنيه لصاحبها، رغم انه هو شخصيا فقد محمولا في سيارة أجرة، و عندما اتصل به رد السائق بأن الجهاز من حقه، و كال له سبابا مقذعًا.فاستعاض عم شحته عن خسارته بالله.
عادة افضل ان استقل سيارة أجرة  قائدها اكثر من الستين عمرا، عادة هم اكثر امانة و احتراما و قيما،حتي لو جار عليهم الزمن، لانهم تربوا علي ان الدين قيم، و ليس مجرد شكليات و طقوس يظنونها تغفر الذنوب فيتمادون،احس  في بعضهم بالاصالة و الولاء و بكرامة من يعرف ان السعادة لا تستقيم دون فضائل. شعرت منه بعرفان حقيقي و غلاب،قلما اشعر به ممن يتملقون او يتمسكنون طلبا للمعونة، و يعتقدون ان حصلوا عليها انهم خدعوا من يعطي.
عم شحته نتاج عصر ولي؛ عصر ما قبل معك قرش، تسوي قرش، عصر الدين لله و الوطن للجميع، عصر إرضاء الضمير قبل الناس و المظهر،عصر افلام الابيض و الاسود، عصر ماقبل التطرف و العولمة، عصر ماقبل الفردية الانانية و المادية المتوحشة، عصر كان فيه طريق و أمل، عصر اكثر عدالة و أصفي إيمانا، عصر علت فيه قيمة الانسان علي المادة، حين آمن المرء أن القيم هي ما تحفظ للانسان قيمته و كرامته، بلا رياء و نفاق و ادعاء و وصاية، قبل ان يبيع الفرد نفسه من اجل لقمة عيش أو مزيد من المادة و الاستهلاك، عصر كان أفضل تعليما و أرقي فنا و بلا فتاوي متشددة. عصر ولي ،فهاجر من هاجر بحثا عن المادة او النوعية،و تكاثر من بقي يأسا أو طمعا، عصر كانت الفضائل مثالا، و ليس الاستقواء و الاستذكاء و التربح بأي وسيلة، عصر الهوية المصرية الاصيلة،
عم شحتة مثال نادر لرجل الشارع البسيط المكافح القنوع المحب لاسرته الصابر علي المكاره. هو جرعة أمل في عالم يتوحش و يغترب عن نفسه و انسانيته، و يشقي بطمعه و ماديته، خلقه يخجل الادعياء و الفاسدين الذين لا يعرفون حدا لجشعهم و لا للتنازلات المختصمة من كرامتهم و سلامة  مقاصدهم. عم شحتة اسعدني بفرحته و مسلكه بما تجاوز عناء إنتظار ساعات سبعة ضاع فيها المحمول، او خشيت في بعضها انني لن اجده، و انوي ان اختار خدمة سيارته ان طال زمن و مسافات احد انشطتي مستقبلا؛ فصحبة الأصيل متعة و حكمة، ترياق للروح و عون علي مصاعب الحياة و غربة الإنسانية.