الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

خالد الشناوي يكتب: شيخ العرب والظاهر بيبرس

خالد الشناوي
خالد الشناوي

منذ أيام قليلة دعيت لزيارة القطب الكبير سيدي أحمد البدوي في طنطا حيث مسجده العريق وضريحه الأنور جميل الاشراق_من أحب البقاع إلى قلبي_


و إنني حين أذهب الى هذه الديار زائرا فإنما أذهب اليها من زاويتين فكريتين متناغمتين، الأولى زاوية روحانية تجد فيها روحي مشربها الذي يعينها في رحلة سيرها ويحقق لها التوازن مع عالم المادة الذي جميعنا يعيشه ويحياه .


فأحاول جاهداً أن أطل بنافذتي على عالم الاشراق النوراني والسلام القلبي والروحاني فتهدأ ثورتي وتطيب نفسي واعود إلى حالتي الوجدانية المرتفعة شيئا فشيئا مواصلا رحلتي مع الحياة جهاداً وعملاً وسلوكاً  .


بينما الزاوية الأخرى أطل منها على قديم الزمان متذكرا الديار وساكنيها واقفا على اطلالها مستلهما العبر والعظات والعلوم والمعارف فلم أزر مسجدا أو معلما إلا ووقفت على تاريخه الفياض الذي هو امتداد لثقافتنا الفكرية والوجدانية .


حين تدخل من الطريق المعبد نحو المسجد الأحمدي سيرا على الاقدام ترى الجمال المعماري وتصميمه العريق فترى المأذنتين من أعلا يمين المسجد ويساره وكأنهما يدين مرتفعتين بالدعاء لمصر بالحفظ والنصر والتمكين بل وكأنهما يدين من الاحتواء والحماية والعناية الروحانية .


هذه المآذن الساكنة تارة والثائرة تارة أخرى تحت السحب المتحركة في عنان السماء لتحكي جمال الطبيعة المصرية الخلابة و مدى صلابة الدولة المصرية مهما توالت عليها النوائب والمحن  .


دلفت إلى المسجد العريق في وسط هذا الزحام البشري المتدافع لزيارة القطب البدوي_علم التصوف في الشرق الاوسط_ و رأيتني اتساءل في ضميري:لماذا مصر تحديدا بهذا الجمال؟ ولماذا هي حاوية لكل الأفكار والمذاهب؟ف لا عصبية قبلية فيها؟ ولا تناحر فكري أو مذهبي؟


ولم البث قليلا حتى كدت أن اسمع صوتا كبيراً بداخلي يقرر لي إنها مصر عنوان للوسطية وتقبل الآخر فهي الجامعة المانعة بحضارتها العريقة واعلام امتها الكبار وهي مختلفة تماما عن سائر بلدان الدنيا ففيها السياحة الدينية والسياحة المعرفية والسياحة الفكرية والسياحة الروحانية فهي قبلة للناس جميعهم من أقصى الأرض إلى أقصاها، أليس الله هو القائل{ادخلوها بسلام آمنين}؟


فليست دولة لقيطة وليست وليدة الصدفة ولم تنشأ بوعد أو ميثاق فهي درة الشرق الأوسط وعروس العالم كانت ولا تزال عبر تاريخها الطويل الضارب في الأرض لأكثر من ٧٠٠٠ آلاف سنة قبل الميلاد مطمعا للعدا وفي ذات الوقت كانت مقبرة لهم .


وفد إلى مصر أعلام الأمة ومصلحيها عبر العصور فعاشوا على ترابها رافعين رايتها ودفنوا في ثراها الطاهر ليدور الزمان مخلدا ذكراهم .


وممن جاءوا إلى مصر القطب الكبير سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه والذي ينتمي اليه الجامع الأحمدي بطنطا صنو الجامع الأزهر الشريف ...


في مسجد شيخ العرب اهداني أحد الزائرين كتابا يتحدث عن صاحب الذكري وبتصفح صفحاته رأيت كيف استرعت دعوة القطب الكبير السيد أحمد البدوي وأتباعه انتباه «الظاهر بيبرس» حاكم «مصر» «فكلف ابن دقيق العيد قاضي القضاة بالديار المصرية » ليتحقق من دعوة «البدوي»، التي كثر حولها الأتباع، ويتأكد من ميوله السياسية والتي خاف منها "الظاهر" لشعبية الرجل في طندتا بعد أن خشي منها على ملكه ..


وبالفعل نزح قاضي القضاة  إلى طندتا_طنطا حالياً_ليقف بنفسه على حقيقة الرجل ، فلما التقاه أفزعه احمرار عينى الرجل كأنهما بركانا من الدماء وحدثته نفسه : " أنه ربما بهذا الرجل  مس من الجنون"!
وقبل أن يفيق من حديثه الداخلي في طيات سره فوجئ بالسيد البدوى يقول :
مَجَانِيـنُ إِلا أنَّ سِـرَّ جُنُونِهـمْ  
عَجِيبٌ عَلى أعْتَابِهم يَسْجُدُ العَقْلُ
وأمام هذه الحال من الكشف النوراني اهتز مضطربا ابن دقيق العيد ثم حاول التماسك قائلا : يا أحمد هذا الحال الذي أنت فيه مخالف للشريعة !
البدوي: وهل أنت على علم بكل الشريعة؟
ـ ابن دقيق العيد : نعم
ـ البدوى :هل قرأت قول الله تعالى :{إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً  ° إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ° وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً  ° إِلَّا الْمُصَلِّينَ ° الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ° وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ° لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} .
..فهل أنت من المصلين ؟! 
ـ ابن دقيق العيد : احسبنى منهم .
ـ البدوى : لست منهم!
فقد طلب إليك أحد تلاميذك ثوباً يستر بدنه وفى خزانة ثيابك أربعون جبة، فلم تعطه سوى خرقة تآكلت أطرافها، فهل أنت من المصلين ؟! ..
"اسكت وإلا أطير دقيقك"
وعلى كل فاذهب يارجل وانشغل بحالك عن أحوال الخلق ، وداوى عيب نفسك ، ولا تنسى أن تصلح خطئين فى نسخة مصحفك!


وجد بن دقيق العيد نفسه فى حضرة رجل يكشف له ما خفى عنه من أحواله ولولا أدب الولاية وسرها الكبير وعهدها المصون لفضحه!


عاد قاضي القضاة إلى القاهرة في رحلة ما أطولها واشقها على نفسه وطول الطريق لم يغب هذا المشهد عن مخيلته وتبقى له أن يتأكد من الخطئين في مصحفه ويقرر في صراعه النفسي لو تأكد لديه صحة ذلك لعاد إلى الرجل يقبل قدميه قبل يديه ...


وصل الرجل إلى داره فزعا ملهوفا عازفا عن الطعام والشراب غير ملتفت لما يدور حوله ثم جعل يتفحص مصحفه ليكتشف خطئين وقع فيهما الناسخ كما أخبر بذلك الشيخ المرابط في عرينه.... !


رجع على وجه السرعة إلى طندتا مرة أخرى وصعد إلى القطب الكبير سيدي احمد البدوي فوق سطح منزله (الجامعة السطوحية) حيث كان القطب الكبير قد اتخذ من سطح منزله الكبير والمرتفع منبراً كبيرا للعلم والفقه والمعرفة والتربية الصوفية تفد إليه أفواج الناس في حلقات من العلم والذكر وتعلية روح الجهاد ترتيبا لصد الهجمات الصليبية البربرية عن الأمة بأسرها 
بعد لقاء الرجل بقطب الولاية المحمدية مرة أخرى تتلمذ على يديه سالكا طريق القوم في تجربته الصوفية الفريدة .


وكأن الأقدار نسجت خيوطها وتناغمت حروفها لتبقى كلماتها الرصينة في سجل الخالدين خير دليل هنا وهناك. 
إنه بالفعل  اذعان الفحول حين تدفعهم الحيادية التامة والحقيقة المجردة بحثاً عن الحقيقة في دنيا الناس.


بدأت عين الظاهر بيبرس تتركز على طندتا والإسكندرية مهبط أبي الفتح الواسطي، وخليفته أبو الحسن الشاذلي، وصديقه العز بن عبدالسلام، وبدأ بيبرس بزيارة الإسكندرية فقابل الصوفي أبا القاسم القباري، ثم مضى لزيارة الشيخ الشاطبي  .


والغالب أن بيبرس في لقائه الغامض بهما حصل على معلومات هامة عن التحرك الصوفي في الإسكندرية وما حولها وسمع الشيء الكثير عن البدوي وعزم على التوجه إليه بنفسه سراً .


وفي سنة (662هـ)، سار بيبرس إلى الغربية وكان يسير منفرداً في خفية، ويسأل عن والي الغربية «الأمير ابن الهمام» وعن سيرة نوابه وغلمانه ومباشريه، فذكرت عنه سيرة سيئة، فقبض عليه وأدبه وأقام غيره...


أي أن بيبرس خص منطقة «الغربية» حيث البدوي بزيارته متخفياً، وتصرف بحزم مع واليها وعزله، وأقام والياً جديداً ينفذ السياسة الجديدة التي ارتآها في رحلته السرية!


ثم توجه إلى القطب البدوي وجلس بين يديه مستمعا لعلمه وفقهه وقد رأى بنفسه أحوال الشيخ الكبير فخرج من مجلسه مثنيا عليه بعد أن تيقن من كذب أقوال الوشاة حول الرجل كما تيقن أيضاً أن الرجل بحر في الولاية الربانيه لا يدرك له قرار  وأنه ليس من طلاب الدنيا أو الباحثين عن مناصبها الزائلة.


فصارت بينهما صلة روحانية كبيرة ووثيقة لم تمزق عراها الأيام بأي حال من الأحوال.
إن حياة السيد احمد البدوي مليئة بالجهاد والمشاركة الميدانية لنصرة الأمة فلم يكن الشيخ منزويا في زاوية أو متقوقعا في ناحية بل شارك في مقاومة حملة الفرنسيين التي قادها لويس التاسع على مصر، وكان تلامذته يأخذون الأسرى من الفرنسيين، ويقاتلونهم أشد القتال، وشارك في معركة المنصورة، التي أُسر فيها لويس فكان الرجل عالما متبحرا ووليا مربيا ومرشدا وبطلا مقاتلا كيف لا وهو أحد فروع الشجرة الهاشمية الرصينة فقد ورثوا العلم والحلم والفروسية كابرا عن كابر فهم أهل بيت نبوة أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا  .


رأيت كيف اهتم القطب البدوي بتربية الرجال علما وسلوكاً وكيف زرع بداخلهم حب الاوطان وحب الله بلا علة وبلا عباده معلولة بتلك العلة ،بل رأيت كيف مع ضعف الإمكانيات اتخذ الرجل من سطح منزله جامعة سطوحية انطلقت منها حلقات العلم والذكر والفهم السليم لصحيح الدين .


بل كيف اهتم بالأطفال فاحتواهم فكرا وتربية وقصته مع خليفته الاول سيدي عبد المتعال الأنصاري وكيف تكفل بتربيته في مدرسته الصوفية المستنيرة منذ كان طفلا وكيف تولاه بالرعاية إلى جانب غيره حتى صاروا اعلاما يشار إليهم بالبنان .


بل رأيت فلسفة الرجل ونظرته البعيدة حينما لم يكتف بجلوس تلاميذه حوله بل كان حينما يمنح أحدهم عهدا ويتيقن من اكتماله علما يبعث بهم إلى الآفاق والبلدان ولو كان الرجل يبحث عن مظهر أو جمع للناس حوله لاكتفى بوجودهم بجواره كنوع من العصبية والتفاخر!


بل رأيت وصيته الجامعة بإطعام الجوعى والتصدق على المساكين والشفقة على جميع خلق الله لا سيما عاصيهم.


رأيت بالفعل خلاصة مدرسته الفكرية «من انتصر على نفسه انتصر على أعدائه وبالمجاهدة تكون المشاهدة» .


جلست في صحن المسجد العريق أطالع الكتاب مستندا إلى أحد الأعمدة منتشيا بروحانية المكان مختبئا عن كل من يعرفني وأعرفه في وقت هو أشبه بالخلوة سافرت فيه عبر سفينة الزمان المبحرة واقفاً على الأطلال وكأني أراها وألامس أحداثها التي سطرها التاريخ بأحرف من النور عبر صفحاته المجيدة والمتجدده بتقلبات الأحداث جيلا بعد جيل .


رحلة روحانية رأيت أن أضع بعضاً من جوانبها بين يديك_سيدي القارئ_لترى كيف أن مصر بالفعل دولة كبيرة وإن اوليائها لم يكونوا وهما و أساطير كما يزعم البعض زورا وبهتانا بل هم حقيقة كبيرة وتاريخ كبير حافل بالعلم والمعرفة والبطولات وجزء لا يتجزأ من كيان هذه الوطن العظيم  .