في صباح بدا عاديًا ، كما تمر الأيام على كثيرين دون أن تترك أثرًا ، خرج رجل مع زوجته كعادتهما في بداية كل شهر لشراء احتياجات البيت تركا أطفالهما في البيت، كما يفعلان دائمًا، كي يبتعدا عن صخبهم، ويلحقا فرصة نادرة للهدوء.
ساعات من التنقّل بين الأرفف، اختيارات مدروسة ، ميزانية متوترة ، تعب صامت ، ووجوه عابرة. أكياس امتلأت بما يكفي لأيام طويلة ، وقلوبٌ امتلأت بثقل لا يُرى، وكأن كل شيء صار يُشترى بتعبٍ مضاعف حتى وصلا بوابة الخروج.
عند البوابة ، كان الزحام المعتاد ، وجوه متعبة ، بضائع مبعثرة تُعرض بلا اهتمام. لكن وسط هذا الضجيج، لمح الرجل وجهًا لم يكن كغيره.
صبيّ نحيل، ملامحه كأنها خرجت من رماد. لم يكن مجرد طفل، بل كان يحمل شيئًا أعمق من سنّه... شيئًا يُشبه الوجع المعتّق.. وقف أمامهما، يحمل كيسًا صغيرًا من الخبز وقال بصوت هادئ لا يشبه أصوات البائعين:
“أنا معي خبز... أمي خبزته بالسمن واللبن. ممكن تشتروه؟”
مدّ الرجل يده بعشرة جنيهات كما يفعل مع كل من يعترض طريقه. لكن الطفل قال بثبات: “أنا لا أشحذ.. أنا من غزة.”
تجمّد الزمن للحظة. العشرة جنيهات صارت ثقيلة، كأنها إهانة. شعر بخجل عميق، ليس فقط من فعله، بل من كل المرات التي اعتبر فيها الألم مشهدًا عابرًا لا يستحق التوقف.
ابتسم له وقال: “أعطني كيس خبز، وسأدفع كما يجب.”
أخذ الخبز، ومضى مع زوجته، لكن وجه الطفل ظل ملتصقًا بقلبه. لم يكن اسمه مجرد "طفل" هذه المرة. كان اسمه "أحمد"، كأنه غزة تمشى على قدمين تهرب من الحرب لكنها لا تهرب من الكبرياء ، هو من أرض تعجن الخبز بالحرب ، وتخمّره بالكرامة.
نسيَ الفاتورة ..نسي كم دفع، وكم تبقّى . كأن الغلاء كله تضاءل أمام ثقل الكرامة القادمة من الجنوب المحاصر.
وفي السيارة، لم يتبادلا الكثير من الحديث. كانت هي تمسك بكيس الخبز كما لو أنه يحمل شيئًا مقدّسًا. رائحته تُشبه دفء بيت بعيد ، تُشبه أماً في مطبخٍ صغير، تعجن الخبز ودموعها تهبط معه، وتقول لولدها: “اخرج، وقل للعالم إن أمك صنعت هذا لتعيشوا لا لتستجدوا.”
عند العودة إلى المنزل، دخلوا المطبخ. فتحت الزوجة الكيس، وناولته رغيفًا، ثم نادت على أطفالها: “تعالوا... هذا خبز من غزة. تذوّقوه، خبزته أم فلسطينية، وابنها خرج يبيعه ليعيشوا بكرامة..”
ركض الأطفال إليها، أخذ كل واحد منهم قطعة، وأخذوا يأكلونها في صمت مدهش ، كأنهم يتذوقون شيئًا لم يعرفوه من قبل، لكنه يشبههم . نظر إليها زوجها، وقال بصوت مبحوح: “أمّه خبزت شيئًا لا يُشترى بالمال.. ونحن اشتريناه بدرس لا يُنسى.”
ومنذ ذلك اليوم، لم يعد يرى الأمور كما كانت.كل وجهٍ صغيرٍ مُتعب صار يشبه "أحمد"، وكل يدٍ ممدودة لا تطلب، بل تهمس في صمت: “أنا من غزة.”
صار يسأل نفسه بصمت موجع: هل يكفي ما أملك من أمنٍ وطعام لأفهم وجع من يملك الكرامة فقط؟ وهل نحتاج أن نُلدغ من خبز الحرب، لنفهم طعمه؟
ومتى تُطفأ نار الحرب عن "أحمد"... وعن كل من خرج يحمل الخبز لا السلاح ؟ متى يُفتح للعالم قلبٌ لا بوابة؟
متى يعود لأطفال غزة حقهم في الطفولة... لا في الصمود؟