وسط إقليم ملتهب لا تتوقف فيه الصراعات برهة، وتتواصل الاشتباكات ليل نهار معلنة عن سقوط أنظمة ودول كبرى وقيام أخرى على أنقاضها، تقف مصر شامخة آمنة مطمئنة رغم محاولات عدة من قوى محيطة بها لجرها إلى هذه الصراعات، بل والدفع نحو ذلك بشدة مستخدمة كل الأدوات المتاحة لديها لتحقيق أهدافها بتوريط مصر وإدخالها نفق عدم الاستقرار والتوتر السياسي.
وتشهد منطقة الشرق الأوسط، منذ عقود توترات سياسية لا تتوقف زادت حدتها مع عملية طوفان الأقصى قبل عامين، وما ترتب على هذه العملية من تغيير كبير في وضع المنطقة التي دخلت في حالة توتر غير مسبوقة خاصة مع انخراط إسرائيل وإيران في اشتباك مباشر لأول مرة في تاريخهما، والذي يؤكد كثير من الخبراء والمراقبين أنه سيقود الإقليم لمرحلة جديدة من العنف وعدم الاستقرار لا يعرف نهايتها.
وبعيدا عما يحدث في قطاع غزة أو حدث في جنوب لبنان أو اليمن أو سوريا وما ترتب عليه من نشوب حرب تكسير عظام بين إيران وإسرائيل، يوجد نزاعات تحيط بالقاهرة لا تتوقف ولا يعرف مصير المشاركين فيها أو إلى أي شيء ستنتهي وما ينتظر البلدان المشتعلة فيها، كما هو الحال في السودان وليبيا.
الصراع في الشرق الأوسط
ورغم كل ذلك تقف القاهرة ثابتة وتتبنى قيادتها السياسية مواقفا حيادية لا انحياز فيها لطرف على الآخر وتسعى بقوة لإنقاذ الإقليم من مستقبل مظلم من خلال دعواتها الدائمة لإعمال العقل والتحلي بالهدوء وترك دور للدبلوماسية لحلحلة أزمات المنطقة، الأمر الذي جعل منها محل احترام وتقدير من جميع القوى الكبرى بل وجنبها ويلات هذه الصراعات والسقوط فيها.
اقرأ أيضًا:
وحول نجاح القاهرة في الحفاظ على موقفها الثابت من جميع الفرقاء ووضعها وسط منطقة تعج بالأزمات وتقف على كرة من اللهب، يقول الكاتب الصحفي والمحلل السياسي أحمد الطاهري، أنه وسط فوضى إقليمية مشتعلة — من سوريا إلى ليبيا، ومن السودان إلى العراق، ومن الشام إلى إيران — لم تسقط مصر في فخ الاصطفاف الأعمى، ولم تنجر إلى مواجهات عبثية، بل اختارت أن ترسم لنفسها مسارًا مستقلاً، واقعيًا، محسوبًا.
وأضاف الطاهري، أن مصر وهي الدولة الكبرى في منطقة لا تعرف الاستقرار وتعيش على وقع التحولات الحادة والصراعات المستمرة نجحت في أن تكون نموذجًا فريدًا في قدرتها على تحقيق اتزان استراتيجي يعكس فهماً عميقاً لتوازنات القوى، وحسن إدارة لمصادر القوة والمرونة معاً.
ووضع الكاتب الصحفي مجموعة من المحددات ساهمت في تحقيق القاهرة هذه الاتزان الاستراتيجي الكبيرة في أقليم على حافة الهاوية، ومنها:
- الرئيس السيسي
يرى الطاهري، أن رؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي تتجاوز اللحظة في قلب هذا التوازن، فتقف شخصية الرئيس السيسي كعامل حاسم في بناء استراتيجية مصر بخلفيته العسكرية وإطلاعه العميق على تركيبة الإقليم، مؤكدا أن الرئيس استطاع أن يتحرك بثبات في أكثر اللحظات اضطرابًا.
وأضاف الكاتب الصحفي، أن الرئيس السيسي لا يدير معركة لحظية أبدا بل يُؤسس لبنية صلبة للدولة المصرية في مواجهة أزمنة الفوضى وهذا مالم يستطع عليه صبرا معظم النخب المصرية، متابعا أن قراءته للمخاطر تمتاز بعمق زمني طويل، فلا تُبنى القرارات كرد فعل، بل كجزء من خريطة شاملة تأخذ في الاعتبار محددات مؤثرة او حاسمه للأمن القومي المصري ( مستقبل المياه/ الطاقة/ الحدود/ السيادة /الهوية الوطنية).
ولفت الطاهري، إلى أن قرارات الرئيس بإنشاء قواعد عسكرية على أطراف البلاد، أو تدشين أسطول بحري قوي أو حتى إعادة رسم الاقتصاد، لم تكن قرارات شكلية، بل كانت إجابات مبكرة على أسئلة قادمة، وهذه هي السياسة بمفهومها الأعلى "استباق الزمن لا الانحناء له".
- السياسة الخارجية
بحسب الطاهري، نجحت مصر في بناء شبكة علاقات خارجية متوازنة (مرونة بغير انكسار)، فهي حليف استراتيجي لدول الخليج وشريك موثوق للولايات المتحدة، وصديق متجدد لروسيا والصين، مؤكدا أن مصر لم ترهن قرارها لطرف واحد، بل مارست نوعاً من الحياد الإيجابي، وراكمت رصيداً دبلوماسياً قوياً كوسيط موثوق في الملفات الساخنة، (من غزة إلى ليبيا - من السودان إلى شرق المتوسط).
- القوات المسلحة المصرية
وتسأل الكاتب الصحفي، قائلا: ألم يردد كل مصري عبارة (الحمد لله على نعمة جيش مصر ) يومياً عشرات المرات وهو يتابع كل ما يجرى من حوله رغم قسوة الحياة اليومية، مضيفا: ننظر هنا إلى الجيش المصري في هذا التحليل بأنه نجح في أن يكون قلب المعادلة الاستراتيجية لمصر ليس كأداة اعتداء أو استعراض بل كعمود فقري للأمن القومي بمختلف أبعاده.
وأشار الطاهري، إلى التحديثات غير المسبوقة في التسليح والتدريب وتوسيع القدرات البحرية والجوية، مؤكدا أنها لم تكن استعراضاً للقوة بل رسالة ردع ذكية مفادها "لسنا دعاة حرب، لكننا جاهزون لها"، وفي طيات هذا المعنى أجابة عن سؤال غبي وهو لماذا نشتري كل هذا السلاح؟.
- الداخل المستقر
يتابع المحلل السياسي، قائلا: صحيح أن التحديات الاقتصادية والضغوط الاجتماعية قائمة، لكن مصر تجنبت انهيارات الدول التي فقدت السيطرة على جبهتها الداخلية، فالمؤسسات أُعيد بناؤها بعد سنوات من التآكل، والمشاريع القومية الكبرى — رغم ما يُثار حولها — منحت المواطن شعورًا بأن الدولة تعمل، وأن هناك مستقبلاً قيد التشكل، والإصلاحات الاقتصادية القاسية لم تكن بلا ثمن ،لكنها حافظت على درجة من الصمود في وجه العواصف، معقبا: مصر ليست دولة ريعية "بل تحاول جاهدة بناء اقتصاد إنتاجي متنوع ويصحح مساره رغم العثرات".
- الأمن القومي اهتمام شعبي
ويرى الطاهري، في هذا الشأن أن مصر هي الكتلة السكانية الأكبر في المنطقة والأمن القومي لم يعد جغرافياً فقط، فمصر تدرك أن معاركها الحقيقية من منابع النيل والحفاظ على السيادة وأمن الحدود إلى الأمن الغذائي، وصولا لمعارك لجان الإنترنت التي تهدف إلى تحقيق حالة انهزامية دائمة في الفضاء الإلكتروني المصري، وبالتالي "أصبح الأمن القومي المصري والحفاظ عليه لغة يتحدثها أكثر من 100 مليون مصري رغم تفاوت إدراكهم هذا التحول في عمق الفهم الشعبي واتساقه مع رسالة الدولة في كل ما يمس الأمن القومي هو ما يجعل مصر أكثر استعدادًا للتعامل مع التحديات غير التقليدية".
وأكد الكاتب الصحفي في ختام تصريحاته، أن الاتزان لا يعني السكون بل القدرة على الوقوف بثبات وسط الأمواج، فمصر برغم كل ما يقال لا تزال تقف بل وتفكر وتخطط وتمسك بخيوط اللعبة الإقليمية دون أن تحترق بها، وقيادتها التي تُدير اللحظة بعين على المستقبل هي الضمانة الأهم لهذا التوازن.