"من لم يمت بالسيف مات بغيره… تعددت الأسباب والموت واحد"بيت من الشعر ولكنه تحول لحكمة عظيمة؛ رحم الله قائلها الشاعر ابن نباتة السعدي، الذي توفي في ثالث أيام عيد الفطر من العام 405 الهجري، واحتراماً لوجهة نظره الجليلة لم أبحث فيما تسبب بموته، والأسباب غفيرة…
فهناك من يموت شنقاً أو قتلاً، وآخرين يذهبوا إليه على يد الاغتيال أو على جناح الاحتيال، والبعض قد يدركه الموت حرقاً أو غرقاً، والكثير يرتحل مرضاً أو عرضاً، ولم تنتهي أسباب الموت المتعددة حتى ندرك أن هناك من مات بائساً يائساً فقالوا عنه يا ولداه.. لقد سقط همداً؛وهذا هو الموت كمداً، لكن هل سمعت عن الموت شغفاً!
إنها اللحظة التي يموت فيها موتك، ويغادر على عتبتها سوء حظك، يفارقك يأسك وتستعيد فيها بأسك، تظن أنك قد شارفت على لقاء حلمك، ولكنك تنسى أن بعد الظن أحياناً قد تلقى إثمك وما ينسيك اسمك.
وتدور وتدور في حلقة محكمة الحلقات والسنون، تعصرك لحظات اليأس المحموم، تدفعك للجنون، وتمر السنون وأنت تحرث الأرض سعياً ولكن دون أن يثمر الزيتون، وبينما تنتظر معجزة السماء والهدية الربانية التي هي للصبر جزاء، تفرغ جعبتك وتنعدم طاقتك، تنطفئ روحك ويخبو حلمك، تتغير ملامحك.. فتسأل نفسك من أنت!
لكن شغفك بما أحببت، وعشقك لما تعلقت لا يعرف التسليم وإن أعلن الاستسلام، بالطبع إرادة الله أكبر من رؤيتنا الضيقة وحساباتنا المغلوطة، لكننا بشر أتخذنا الأسباب ولم نلق الجواب.. لذا فالموت شغفاً أرحم من ضجيج العقل الذي لن يكف عن الحساب، وبكاء القلب الذي لم يتوقف عن العتاب! وعذاب الروح التي تراقبهما صارخة أعني يا الله.. لن أسأل أين عدلك، لكن أتذلل لجلالك أن ترفع عن روحي ثقل ظلم ممن هو عبدك، النجدة يا إلهي من دار عذابك ومستقر عقابك.. تلك الدنيا التي يتحكم فيها من أخلاقهم دنيا.
لذا قد تكون حقيقة وجود الموت مطمئنة؛ بمثابة باب للخروج من الأفكار اليائسة، فلم الحزن والقلق؛ الضيق والسخط، وكل ما نحن فيه سيصبح قريباً ذكرى لن تجد من يتذكرها!
لكن لأننا بشر سيظل الموت هو القادم الذي لا ننتظره والضيف الذي لا نحتسبه، رغماً عن كونه حقيقة راسخة، وواقع.. لا ينازله مُواقع، إلا أننا نراه حدث جامد صلد الملامح؛ حاد المشاعر، حتى وإن كان الوحيد على ظهر هذا الكوكب الذي يعد ويفي، ولكن نفس الإنسان من تلك البراهين لا تكتفي.
فهل نكره الموت! احترس من إجابتك فهي محل نقد وفي كل الأحوال ستتعرض للنقض!
فإذا كان جوابك بالإيجاب ستجد مدعي الورع وقد اتهمك بما قد يكون ليس بك، من أن البعد عن الله هو علتك؛ والدنيا الزائلة التي تملأ قلبك هي حجتك، والطالح بالتأكيد عملك، أما الغث فدون شك قولك، والسمين قطعاً عقلك!
يعتقدون ذلك دون الالتفات أن تلك الكراهية التي تضنها للموت قد تكون ناتجة عن صدمة فراق مفاجئة، أو إنك تخشاه خوفاً من مسئوليات لا زالت بك لا حقة، أو أن هناك عهود لم توفيها، ووعود عاهدت الله أن تؤديها ولم يأذن بعد.
وربما كراهيتك للموت لأنك لم تحيا بالأساس.. لقد جئت للحياة وعشت دون أن تحيا، لذا أنت ميت قبل أن تموت، وقد تكون قسوة هذا الموات الهامشي، ما أرهبك من مشتق الفعل الرئيس، لذا كلما تردد ذكره تمتم لسانك.. يا مغيث.
أما إذا كانت إجابتك باستنكار السؤال، والاستهزاء من تلك السخافة التي تنال من هذا المخلوق الذي يستحق الثناء، بل والشكر والوفاء، وترى أن الموت هو ألطف الموجودات، فيكفيه أنه لم يستقدم ولن يستأخر عن ميعاده المكتوب، ولن يخلف حضوره في دفتر المقسوم، وتهون فكرة لقائه على قلبك ما تقدم من حلم وما تأخر من ألم موعود.
فهو من يرمم فقدك؛ فعندما تذكره تتذكر أن كلنا راحلون وما الدنيا إلا رحلة ونحن يوماً مفارقون، وإن طال الظلم أو قصر ففكرة الموت قادرة أن تقصيه؛ ذلك الإحساس بالقهر وما يتبعه من عجز؛ تلك الحقيقة كفيلة بهزيمة مساعيه، فإن لم يرحل فأنك سترحل ويومئذ عند الله ستجتمع الخصوم، فإنك ميت وهم ميتون، وستلتقي الوجوه يوم لا رسائل دون علامة وصول، ولا مكالمات فائتة ولعنات زائفة على شبكات الهاتف المحمول، ولا بشرى تعرقلت في الواقع المأزوم..كلنا يومئذ حاضرون، فكتابك المختوم بعلم الوصول ابلغك ذلك يوم ميلادك فلا تتدعي أنك كنت مشغول!
وبالرغم من كل ما سبق، إلا أن تلك المحبة قد تصبح تهمتك، وربما تسجل في صحيفة سوابقك، أنك موتور تدعي الفضيلة ومن يدقق في أمرك ربما يكتشف أنك قاتل مأجور!
لن تنجو من اتهام البعض لك بادعاء البراءة وارتداء ثوب الطهارة، وأن ذلك الحب المجنون تحوم حوله الظنون، فمن أنت يا آثم حتى تشتاق لهذا الفعل القاسم، مفرق الجماعات وهادم اللذات!
ولأحدثك بالحق.. إن معهم بعض الحق، فللموت جلال لا ينكر وهيبة من الصعب أن تُستنكر، وكلنا خاطئون وفي الذنوب غارقون، ومهما عدنا وكنا توابون نعود مسرعون لما كنا عليه فنحن.. خطائون!
إذا فلماذا تتعجل لقاء الله! بماذا ستخبره! بمعصيتك أم بإثمك وهو العالم والمطلع على سرك، فما في الموت قد أسرك؛ وتعتقد أنه سيسرك!
والإجابة ببساطة أن لا عمل مهما أتينا من صالح العمل لنقدمه لله، لكن هو العشم في رحمته المتسعة بحجم ما نعلم من السماوات والأرض، وما لا نعلم بينهما لأننا لم نؤتى من هذا العلم إلا قليلاً.
فلا شك أن ذنوبنا ثقيلة في كفة الميزان لكن يقيننا أن مغفرته وسعت كل شيء، وحلمه قادر أن يمحو ويغفر صحائفنا وكأن ما كتب عليها شيء، سبحانه يقدر على ما عظم من الأمر ولا نقدر على مستصغر أي أمر.
الموت راحة من عناء الأمل، الذي انهكتنا الحياة ونحن نبحث عنه، بالرغم من إننا نعلم أن العثور عليه درب من المستحيل، هو استراحة من أحلام مشروعة انفطرت قلوبنا ونحن نراها تتحطم على صخرة يستحيل، هو نهاية القضاء وجولة الختام للقدر، لذا لا مزيد من المفاجآت ولا المفجعات، فما مضى هو من مات.. أما روحك وسلامك هو ما نتوسل لله أن يكون هو الآت.
لكن طالما في العمر بقية؛ فهناك حكمة مخفية، وحدك تعرف لم أنت هنا! فربما ما تحزن على فراقه أو عدم إدراكه هو درجة سيرتقي بها ميزان حسناتك، وصبرك المؤقت على ما تكره هو السبيل لسعادتك الدائمة بسبب ما تحب.. فالعمر مهما طال قصير.. لذا كن فيه شخص جميل؛ ضيف خفيف؛ يذكرونك بالخير إذا حضرت سيرتك، بدلاً من لعن سلسال حضرتك.
أرسم بسمة، امسح دمعة، ازرع وردة، رطب لسانك بالكلمة الحلوة، وإن لم تستطع كف لسانك؛ وليصلح الله حالنا وحالك.