إنّ من فضل الله على هذه الأمة أن يهيئ لها في كل مرحلة من مراحل تاريخها رجالاً يجددون وعيها الفقهي، ويصلون بين أصوله ومقاصده، ويرتقون به من ضيق الحرفية إلى رحابة الكلية. وفي عصرنا الراهن، يبرز معالي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، بوصفه أحد هؤلاء الذين أدركوا أن الإصلاح الفقهي لا يقوم على القطيعة مع الماضي ولا على الجمود في الحاضر، وإنما على التغيير في إطار الاستمرارية، أي وصل الحاضر بالماضي واستشراف المستقبل على ضوء المقاصد العليا للشريعة.
لقد انعقد في العاصمة الماليزية كوالالمبور ملتقى فقهي غير مسبوق بعنوان “تدريس الفقه الإسلامي وتكوين الفقيه: معالم وضوابط”، تحت مظلة المجمع الفقهي الإسلامي، ليجسد هذه الرؤية الإصلاحية. ولم يكن اختيار ماليزيا محض مصادفة، فهي فضاء حي للتعددية والتعايش، ومجال خصب يعكس كيف يمكن للفقه أن يكون أداة لبناء مجتمع متوازن في ظل تنوع الأديان والثقافات. غير أن قيمة الملتقى الحقيقية لم تكمن في مكانه ولا في بروتوكوله، بل في الإشكالية الفكرية التي طرحها بجرأة: لم يعد الأمر يقتصر على تجديد الفقه في أدواته وقواعده ومقاصده، بل تعداه إلى تجديد الفقيه ذاته.
فالتاريخ الإسلامي عرف انشغالاً طويلاً بتعريف الفقه وضبط قواعده وتحرير مصطلحاته، حتى غدا نسقاً معرفياً محكماً في بنيته. لكن ما يحتاجه المسلمون اليوم يتجاوز ضبط التعريفات إلى بناء شخصية الفقيه الجديد، ذلك العالم الذي لا تقتصر مهمته على نقل الأحكام، بل على استيعاب النصوص بمقاصدها، وتحقيق مناطاتها في واقع متغير، بوعي يتجاوز حدود التخصص الضيق نحو تكامل معرفي يجمع بين علوم الشريعة وعلوم الإنسان والمجتمع. إن الفقيه المعاصر لا يكفيه الحفظ والقياس، بل يحتاج إلى وعي فلسفي واجتماعي، وإدراك عميق للتحولات الاقتصادية والسياسية، وقدرة على قراءة الإنسان باعتباره كائناً مكرماً عاقلاً حراً، وعلى قراءة العالم باعتباره ساحة للتعارف والتعاون، لا مجرد ميدان للصراع والهيمنة.
لقد كان الفقه في عصور ازدهاره علماً مركباً يستند إلى أصول الفقه وعلم الكلام واللغة والمنطق، بل حتى الرياضيات والفلك حين دعت الحاجة. أما اليوم فإن الفقيه في حاجة ماسة إلى إضافة رافد جديد هو العلوم الإنسانية والاجتماعية، حتى يكون اجتهاده قادراً على النفاذ إلى عمق الواقع الإنساني، وتقديم أجوبة حضارية تستوعب تحديات العصر. وبهذا المعنى يصبح الفقيه، في مشروع الدكتور العيسى، مهندساً حضارياً، يبني جسوراً بين الشرع والواقع، بين النص والمقصد، بين الفقه والإنسان.
إن نظرة الفقيه إلى الإنسان والعالم هي التي تمنح اجتهاده قيمته وفاعليته. فإذا انغلقت هذه النظرة على الماضي جمد الفقه وفقد حيويته، وإذا انفلتت من الضوابط الشرعية فقد الفقه أصالته. أما المنهج المقاصدي الذي يستعيده الدكتور العيسى فيقوم على التوازن: النظر إلى الإنسان باعتباره مكرماً بالعقل والحرية، والنظر إلى العالم باعتباره مجالاً للتعاون والتكامل، في ضوء ضوابط الشريعة التي تمنح هذا الانفتاح معناه وحدوده.
إن ملتقى كوالالمبور لم يكن مجرد مناسبة فكرية، بل إعلاناً عن صناعة جديدة للفقيه. فقيه يجمع بين رسوخ الشرع ووعي العصر، بين فقه النصوص وفقه المقاصد، بين فقه الواقع وفقه الإنسان، ليعيد للفقه الإسلامي مكانته كإطار ناظم للحياة، وكأداة لبناء السلم المجتمعي وحماية الهوية، وكجسر للتواصل الحضاري. وبذلك يترسخ مشروع الدكتور العيسى لا باعتباره حدثاً عابراً في أجندة المؤتمرات، بل باعتباره مساراً استراتيجياً يعيد الاعتبار لمركزية الفقيه في بناء الأمة، لا بصفته ناقلاً للأحكام فحسب، بل باعتباره عالماً مجدداً، موسوعياً، مقاصدياً، قادراً على أن يزاوج بين الشرع والعقل، بين التراث والمعاصرة، وبين المحلية والإنسانية.
إن الأمة الإسلامية اليوم، في ظل ما تواجهه من تحولات كبرى، لا تحتاج فقط إلى فقه مجدد، بل إلى فقهاء مجددين. وهذا ما يجسده الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى في مشروعه: فقه يتجدد باستمرار في إطار الاستمرارية، وفقيه يعيد وصل الشرع بالإنسان، ويعيد للإنسان موقعه المركزي في مشروع الشريعة، فيكون الفقه بذلك جسراً للتجديد الحضاري، ومصنعاً لإحياء القيم، وميداناً لصياغة مستقبل الأمة في ضوء مقاصدها العليا.