قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. محمد بشاري يكتب: من هدم الأوطان إلى أوهام الدولة.. المأزق المستحيل للجماعات المتطرفة

د. محمد بشاري
د. محمد بشاري

حين نتأمل في مسار الجماعات المتطرفة نكتشف أنها لم تُولد إلا لتكون معولاً للهدم، أداةً لتفكيك الكيانات وإضعاف المجتمعات، عاجزةً عن نسج نسيجٍ وطني جامع أو بناء مشروع سياسي قادر على الصمود. فالخطاب الذي تروّج له هذه الجماعات ليس سوى وعدٍ زائف، يقدّم الوهم في صورة الخلاص، ويرسم للدولة ملامح مثالية سرعان ما تتلاشى أمام أول اختبار واقعي. هي جماعات تجيد التدمير لأنها مشدودة إلى منطق المعادلة الصفرية، حيث لا مكان للتدرج أو التوافق أو المشاركة، بل إما أن تبتلع الواقع كله أو أن تُغرقه في الدماء.

الدولة في جوهرها عقدٌ اجتماعي يتطلب عقلانية في التدبير، واستيعاباً لمختلف القوى والتيارات، وصبراً على إدارة التوازنات، وإيماناً بأن البناء عملية تراكمية طويلة المدى. أما الجماعات المتطرفة، فترى نفسها وحدها مالكةً للحقيقة ومفوّضةً لتغيير العالم، فتصير في حقيقتها مجرد جزر معزولة لا تعرف إلا الإقصاء ولا تجيد إلا الصراع. وحين تُتاح لها فرصة السيطرة على بقعة من الأرض، فإنها لا تُشيّد مؤسسات راسخة ولا تُقيم نظاماً سياسياً رشيداً، بل تُغرق الناس في أزمات معيشية، وتزرع بينهم بذور الانقسام، وتستحضر التدخلات الخارجية لتستكمل مشهد الفشل.

إنّ بناء الدولة ليس مشروعاً وعظياً ولا شعاراً دعوياً، بل هو صناعة متأنية تقتضي وعياً بالواقع وتشابكاته، وقدرةً على التحالف مع المختلف، ورؤيةً تستحضر روح العصر ومكتسباته. وهذه كلها غائبة عن الجماعات المتطرفة التي تنغلق داخل خطابها التبشيري الضيق، وتتعامل مع المجتمع بوصفه كتلة من “الضالين” ينبغي إرجاعهم إلى سواء السبيل، لا بوصفه جسداً متعدد العناصر يحتاج إلى عقد سياسي شامل يضمن العدل للجميع. ومن ثم فإنها تظل أسيرةً لشعاراتها الطوباوية، عاجزة عن ترجمتها إلى مؤسسات، إلى قوانين، إلى إدارة حديثة تحفظ مصالح العباد.

ولأنها لا تُجيد غير منطق المغالبة، فهي لا ترى في القوى السياسية والاجتماعية سوى خصوم وأعداء. تجهل فنون المساومة وتجهل ثقافة التسوية، وتتعامل مع الوطن كغنيمة أو ساحة حرب، لا كبيتٍ جامع. وهكذا تتحول إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، لأنها لا تملك أدوات التفاهم ولا تمتلك قدرة على قراءة العالم وتشابكاته. وفي زمنٍ باتت فيه المصالح متداخلة والإرادات متشابكة، يصبح هذا المنطق الانعزالي طريقاً مفضياً إلى الانتحار الجماعي.

التاريخ شاهدٌ صارخ: لم يحدث قط أن نجحت جماعة متطرفة في بناء دولة مستقرة تستوعب مواطنيها وتحقق لهم الأمن والرخاء. ما نجحت فيه هو إسقاط حكومات أو زعزعة أنظمة، لكنها سرعان ما عجزت عن ملء الفراغ، فتحولت الأرض التي سيطرت عليها إلى فضاء للفوضى والانهيار. وفي كل تجربة يتأكد أن خطابها الأحادي وطبيعتها العنيفة يجعلانها قادرة على زرع الخراب لا على صناعة العمران.

إنّ الخطر الأكبر لهذه الجماعات لا يكمن في تفجيراتها ولا في عملياتها المسلحة، بل في مشروعها الكامن لتفريغ الدول من مضمونها وتحويلها إلى مساحاتٍ مشاعٍ للدمار. فهي ماهرة في بيع الوهم، لكنها حين تُختبر على أرض الواقع تنكشف عاجزة، لأن بناء الدول يحتاج إلى روح الاعتدال، وإلى قدرة على التوافق، وإلى مشروع جامع يتسع لمختلف المرجعيات الفكرية والسياسية. أما هي فلا تملك سوى إعادة إنتاج الدمار تحت شعارات براقة.

من هنا يمكن القول إن الطريق الذي تسلكه هذه الجماعات ليس إلا مساراً نحو العدم، فاتباعها يعني الانتحار الجماعي، والانخراط في مشروعها يعني التخلي عن كل أفق لحياة كريمة أو لمجتمع آمن. وحده الاعتدال قادر على صون الأوطان، وحده التوافق كفيل ببناء الدولة الحديثة، أما التطرف فلا يورث سوى الخراب، ولا يحصد أهله إلا العزلة والدمار.