في وقت يشهد فيه الاقتصاد العالمي تقلبات حادة وتحديات غير مسبوقة، برزت تحويلات المصريين العاملين بالخارج كأحد أهم مصادر الأمل والثبات للاقتصاد المصري. فالأرقام الصادرة عن البنك المركزي تكشف عن قفزة تاريخية بلغت 49.7% خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2025، لتسجل نحو 23.2 مليار دولار مقارنة بـ15.5 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام الماضي. هذه الزيادة لا تقتصر على مجرد أرقام مالية، بل تحمل بين طياتها دلالات إنسانية واجتماعية واقتصادية عميقة.
ارتفاع تاريخي.. يوليو يسجل رقمًا قياسيًا
الأرقام تكشف أن يوليو 2025 كان استثنائيًا بكل المقاييس، حيث سجلت تحويلات المصريين نحو 3.8 مليار دولار، وهو أعلى مستوى شهري في تاريخ البلاد، مقابل 3 مليارات دولار فقط في يوليو 2024. هذا الارتفاع يعكس عدة عوامل، منها تحسن دخول العاملين بالخارج، خاصة في دول الخليج، إلى جانب ثقة المصريين في القنوات الرسمية التي طورتها الدولة لتسهيل إرسال الأموال، مما قلل من اعتمادهم على السوق غير الرسمي.
ويؤكد الدكتور عبد الهادي مقبل، رئيس قسم الاقتصاد بجامعة طنطا، أن هذا الارتفاع يعكس في جوهره قوة الروابط العائلية والاجتماعية، حيث لا يتردد ملايين المصريين في الخارج في دعم أسرهم داخل البلاد، ليصبحوا بذلك "خط الدفاع الأول" أمام التحديات الاقتصادية الداخلية.
أثر مباشر على الاحتياطي واستقرار الصرف
تمثل هذه التحويلات موردًا رئيسيًا للعملة الصعبة، وهو ما يمنح البنك المركزي مرونة في إدارة ملف النقد الأجنبي. إذ تساعد هذه التدفقات الدولارية في دعم الاحتياطي النقدي الأجنبي، وتقوية قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها الخارجية، فضلًا عن المساهمة في استقرار سعر الصرف في مواجهة أي ضغوط خارجية.
وبينما يصف الخبراء هذه التحويلات بأنها "شبكة أمان" للاقتصاد، فإنها أيضًا فرصة لإعادة التفكير في كيفية توجيه هذه الأموال نحو قنوات إنتاجية واستثمارية تحقق قيمة مضافة، بدلًا من اقتصارها على الاستهلاك فقط.
قرار المركزي.. سحب سيولة لضبط التضخم
في موازاة هذه التدفقات الإيجابية، أعلن البنك المركزي المصري عن خطوة لافتة، بسحب نحو 238.150 مليار جنيه من 18 بنكًا محليًا عبر عطاء السوق المفتوحة، بفائدة بلغت 22.5%، وذلك في 23 سبتمبر 2025.
الخطوة تعكس سياسة انكماشية واضحة تهدف إلى امتصاص فائض السيولة داخل الجهاز المصرفي، بما يساهم في ضبط معدلات التضخم المرتفعة. ووفقًا للمركزي، تأتي هذه الإجراءات ضمن عملية منظمة لربط الودائع عبر مزادات أسبوعية ثابتة السعر، بما يضمن الشفافية ويوزع الأعباء بشكل عادل على البنوك.
قوة التحويلات وأثرها المباشر
يشير الدكتور عبد الهادي مقبل، رئيس قسم الاقتصاد بكلية الحقوق بجامعة طنطا، إلى أن بلوغ تحويلات يوليو وحدها 3.8 مليار دولار كأعلى مستوى تاريخي، لم يأتِ من فراغ. إذ يعكس نجاح الدولة في تعزيز القنوات الرسمية لاستقبال الأموال وتقليل اعتماد المصريين على السوق غير الرسمي، فضلًا عن ارتفاع دخول العاملين بالخارج، خاصة في الدول الخليجية. هذه التدفقات النقدية تعني سيولة دولارية إضافية تعزز من الاحتياطي الأجنبي وتمنح الدولة مرونة أكبر في استقرار سعر الصرف ومواجهة التزاماتها الخارجية.
قرار البنك المركزي.. بين السيطرة والتحفيز
في موازاة هذا التدفق الإيجابي، اتخذ البنك المركزي المصري خطوة بارزة بسحب نحو 238.150 مليار جنيه من البنوك عبر عطاء السوق المفتوحة بفائدة 22.5%. خطوة تُقرأ في سياق السياسة الانكماشية التي تهدف إلى ضبط السيولة الزائدة والحد من الضغوط التضخمية. ويصفها الخبير بأنها أداة ضرورية لضمان فاعلية السياسة النقدية وإبقاء التضخم تحت السيطرة.
تحدي التوازن الاقتصادي
لكن المعضلة، كما يرى الخبير، تكمن في تحقيق التوازن.. فبينما يسعى البنك المركزي إلى امتصاص السيولة لكبح التضخم، لا بد من توفير التمويل الكافي للنشاط الإنتاجي والاستثماري. فإذا طال التشديد النقدي قد يتأثر نمو الاقتصاد. غير أن الارتفاع القوي في التحويلات يوفر متنفسًا و"شبكة أمان" تمنح صانع السياسة النقدية مساحة أوسع للحركة دون تهديد مباشر لقدرة الاقتصاد على جذب العملة الأجنبية.
تعيش مصر لحظة فارقة، حيث تقف بين نجاح ملحوظ في جذب تحويلات تاريخية، وسياسات نقدية صارمة لمواجهة التضخم. النجاح لن يُقاس فقط بالأرقام المسجلة أو بحجم السيولة التي يسحبها البنك المركزي، بل بقدرة الدولة على تحويل هذه الموارد إلى مشروعات إنتاجية حقيقية تخلق فرص عمل وتزيد من القيمة المضافة.
إنها معادلة معقدة، لكنها تحمل في طياتها فرصة نادرة: الجمع بين الاستقرار النقدي والتحفيز التنموي. فإذا استطاعت الدولة أن توازن بين الاثنين، فإن تحويلات المصريين بالخارج قد تتحول من مجرد تدفقات نقدية إلى رافعة استراتيجية تقود الاقتصاد نحو مرحلة أكثر صلابة واستقرارًا.