من يظن أن التهجير القسري للفلسطينيين إلى سيناء يمكن أن يمر مرور الكرام، لا يعرف مصر، ولا يقرأ تاريخها، ولا يفهم طبيعة هذه الأرض التي ارتوت بالدماء على مدى عقود. فما يجري اليوم في غزة ليس معزولًا عن تاريخ طويل من الأطماع في سيناء، ولا عن صراع ممتد بين مشروع استعماري إسرائيلي يسعى للتمدد على حساب الآخرين، وبين مصر التي دفعت من أرواح أبنائها عشرات الآلاف دفاعًا عن ترابها وعن فلسطين معًا.
غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 تحولت إلى بؤرة الصراع العالمي من جديد. أكثر من 41 ألف شهيد فلسطيني خلال عام واحد، ودمار غير مسبوق في البنية التحتية، وصور أطفال تحت الأنقاض هزت ضمير العالم. ومع ذلك، انقسمت المواقف الدولية على نحو فاضح: الولايات المتحدة تكرّر الفيتو في مجلس الأمن أكثر من مرة لحماية إسرائيل، بينما أوروبا وقعت بين ضغط شعوبها الغاضبة من المجازر، وبين ارتباطاتها السياسية والعسكرية بواشنطن وتل أبيب. في المقابل، برزت روسيا والصين وهما تتحدثان عن حل الدولتين وضرورة وقف إطلاق النار، لكن دون أدوات ضغط حقيقية لوقف نزيف الدم.
وسط هذا المشهد، ظهرت أخطر الأفكار: تصدير الأزمة إلى سيناء. وكأن تهجير الفلسطينيين من أرضهم يمكن أن يكون حلًا، أو وكأن مصر يمكن أن تتحمل وزر جريمة يريد الاحتلال أن يتخفف منها. هنا تتجلى خطورة اللحظة: فالتاريخ يعلمنا أن فكرة "توطين الفلسطينيين في سيناء" ليست وليدة الحرب الأخيرة، بل هي قديمة قِدم المشروع الصهيوني نفسه.
في عام 1903 طرح تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، مشروعًا للاستيطان اليهودي في العريش، باعتبارها بوابة مناسبة لإقامة "وطن بديل". المشروع تعثر وقتها، لكنه ظل حاضرًا في الأذهان. ثم تجددت المحاولات في الخمسينيات والستينيات مع الاحتلال الإسرائيلي لغزة، وأخيرًا بعد احتلال سيناء كاملة عام 1967، حيث اعتبر قادة إسرائيل أن هذه الأرض الفسيحة الغنية يمكن أن تكون مجالًا حيويًا للتوسع.
لكن مصر، التي عرفت قيمة سيناء، خاضت معارك طويلة لاستعادتها. ما بين نكسة يونيو 1967، وحرب الاستنزاف، وصولًا إلى نصر أكتوبر 1973، دفعت مصر ثمنًا باهظًا: أكثر من 8 آلاف شهيد في معركة العبور وحدها، وعشرات الآلاف منذ بداية الصراع مع إسرائيل. كان عبور الجيش المصري في السادس من أكتوبر وتحطيم خط بارليف لحظة فاصلة لم تثبت فقط أن سيناء لن تكون "أرضًا بلا شعب"، بل أكدت أن مصر تملك القدرة والإرادة لاسترداد أرضها مهما طال الزمن.
اليوم يعود المشهد في صورة جديدة. بعد عدوان 2023 على غزة، بدأ بعض الساسة في إسرائيل يطرحون من جديد سيناريو "ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء". شخصيات مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش لم يترددوا في الدعوة علنًا إلى "حل نهائي" يتضمن تهجير سكان القطاع. حتى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وإن لم يقلها صراحة، إلا أن ممارساته على الأرض – من قصف مستمر، وحصار خانق، وتجويع ممنهج – تعكس هدفًا واضحًا: دفع الفلسطينيين دفعًا نحو الحدود المصرية.
لكن مصر قالت كلمتها بوضوح. الرئيس عبد الفتاح السيسي حذّر في أكثر من مناسبة من أن أي محاولة لتوطين الفلسطينيين في سيناء خط أحمر، وأن أمن مصر القومي لا يُقبل فيه المساومة. الموقف المصري هنا ليس مجرد دفاع عن السيادة، بل هو دفاع عن القضية الفلسطينية نفسها. لأن تهجير الفلسطينيين من أرضهم يعني عمليًا تصفية قضيتهم، وتحويل غزة إلى ذكرى، والقدس إلى ملف منسي.
المفارقة أن العالم، وهو يشاهد هذه الكارثة، يكرر خطاب "حل الدولتين" كأنها أسطوانة مشروخة، بينما يتجاهل أن تهجير الفلسطينيين ينسف أساس هذا الحل من جذوره. كيف تقوم دولتان إذا أُفرغت غزة من شعبها، وأُلحقت سيناء بملف لا يخصها؟!
إن ارتباط اليهود بسيناء ليس روحانيًا فقط كما يزعم بعضهم، بل استراتيجيًا. فسيناء بالنسبة لإسرائيل تمثل حاجزًا طبيعيًا يوفر لها عمقًا أمنيًا في مواجهة مصر، ومجالًا للتوسع على حساب الفلسطينيين. هذا الارتباط ظهر بوضوح حين وصف موشيه ديان سيناء بأنها "الهدية الإلهية لإسرائيل"، وعاد ليظهر في خطط أمنية وضعتها مراكز أبحاث إسرائيلية في العقدين الأخيرين تتحدث عن "الحل السكاني" في القطاع عبر التهجير إلى مصر.
لكن مصر التي دفعت دمًا لاستعادة سيناء، لن تقبل أن تكون أرضها ثمنًا لحل صهيوني مأزوم. لقد عبرت عن ذلك مواقفها الرسمية، وأكدته أيضًا الإرادة الشعبية المصرية التي تعتبر أن سيناء ليست فقط قطعة أرض، بل رمز للكرامة الوطنية.
أمام كل هذا، تتكشف ملامح الصراع الراهن: إسرائيل تحاول فرض أمر واقع عبر القوة المفرطة، وأمريكا توفر لها الغطاء السياسي والدبلوماسي، بينما يظل العرب بين بيانات الشجب والوساطات الإنسانية. لكن القاهرة وحدها تقول "لا" بصوت مسموع: لا للتهجير، لا لتصفية القضية، لا لتحويل سيناء إلى مكب لمشاريع الآخرين.
ولعل التاريخ يذكرنا أن من حاول فرض معادلات بالقوة في هذه المنطقة انتهى إلى الفشل. من هُزم في 1973 لن ينجح اليوم مهما بلغت قوته العسكرية، لأن إرادة الشعوب لا تُقهر. غزة، رغم دمارها، صامدة، وسيناء، رغم الأطماع، محصنة بدماء أبنائها.
الخطر الحقيقي ليس فقط في استمرار العدوان، بل في محاولات إعادة إنتاج أفكار قديمة بثوب جديد. وهنا تكمن أهمية أن يبقى الصوت المصري حاضرًا، لا بصفته صوت دولة فقط، بل بصفته صوت أمة خبرت معنى الاحتلال ومعنى الحرية.
إن "سيناء وغزة" ليستا ملفين منفصلين، بل جبهتان في معركة واحدة: معركة الوجود والهوية. وما بين 1903 حين حلم هرتزل بالعريش، و1973 حين حطم المصريون أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، و2023 حين واجهت غزة أعتى آلة حرب في المنطقة، يبقى الدرس واحدًا: هذه الأرض لا تُباع، وهذه الشعوب لا تُكسر.
قد تختلف خرائط القوة الدولية، وقد تتبدل المواقف بتبدل الإدارات في واشنطن أو تل أبيب، لكن الثابت أن مصر ستظل الحارس الذي لا ينام على حدودها الشرقية، وأن غزة ستظل شوكة في حلق مشروع يريد أن يبتلع كل شيء. وفي النهاية، من يقرأ التاريخ يعرف أن الدماء التي سُفكت فوق رمال سيناء وفي أزقة غزة ليست مجرد أرقام، بل وصايا حية تقول: هذه الأرض لنا، وهذا الحق لا يسقط بالتقادم.