قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. محمد بشاري يكتب: موسى جار الله.. صوت الإصلاح الذي عبر بين ضفّتين

د. محمد بشاري
د. محمد بشاري

حين نتأمل في سيرة موسى جار الله ندرك أننا أمام شخصية فريدة في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث، شخصية لم تكتف بأن تكون ابن بيئتها الضيقة، بل تجاوزت حدود المكان والزمان لتؤسس خطابًا إصلاحيًا عابرًا للقوميات. لقد حمل همّ الإسلام في روسيا، وفي الوقت ذاته ظلّ وفيًا لروحه العربية الإسلامية، فكان بحقّ جسرًا يربط بين عالمين متباينين: الثقافة العربية الإسلامية من جهة، والفضاء الروسي بأبعاده التاريخية والفكرية من جهة أخرى.

وُلد شيخ الإسلام في روسيا قبل الثورة البلشفية موسى جار الله (1295 - 1369 هـ / 1878 - 1949 م) في قازان، تلك المدينة التي كانت منارة العلم للمسلمين التتار في روسيا القيصرية. نشأ في بيئة يغلب عليها التعليم الديني التقليدي، لكنه منذ شبابه أدرك أن المعرفة لا تكتمل بالانغلاق على الذات. فانطلق في رحلاته الكبرى: إلى إسطنبول حيث عايش النقاشات الحادة حول الإصلاح العثماني؛ إلى القاهرة حيث التقى بأصداء الفكر التجديدي لمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني؛ إلى الحجاز حيث التصق بالفقه والتراث النصي؛ وإلى الهند والشام حيث لامس تنوع التجارب الإسلامية. هذه التنقلات لم تكن مجرد أسفار جغرافية، بل كانت مدارس فكرية صاغت وعيه النقدي وأكسبته أفقًا موسوعيًا.

عاد موسى جار الله إلى روسيا محمّلًا بمشروع إصلاحي واسع. كان يرى أن المسلمين الروس لن يحافظوا على هويتهم ما لم يرتبطوا بالعربية باعتبارها لغة القرآن ووعاء الثقافة الإسلامية الجامعة. لذلك جعل من تعليم العربية محورًا رئيسيًا في جهوده، رابطًا بينها وبين مناهج التعليم الحديث. لم يكن دفاعه عن العربية مجرد نزعة لغوية، بل رؤية استراتيجية لبناء وعي إسلامي متجدد يتغذى من النصوص الأصلية ويواكب تطورات العصر.

في الوقت نفسه، انتقد الجمود الفقهي الذي جعل الدين مجرد تقاليد موروثة، مؤكدًا أن الإسلام في جوهره رسالة تحريرية تدفع إلى العدل والحرية والكرامة. دعا إلى اجتهاد يتجاوز الحرفية إلى روح المقاصد، ورأى أن الإصلاح ليس خيارًا فكريًا بل ضرورة وجودية لأمة تواجه خطر الذوبان في بيئة ثقافية وسياسية معقدة. كان يعتبر أن الدين إذا انفصل عن العمران والعلوم الحديثة فقد حيويته، وأن النهضة الحقيقية لا تقوم إلا على المزاوجة بين القيم الروحية والمعارف المدنية.

لقد جاءت أفكار موسى جار الله في زمن شديد الاضطراب. روسيا كانت تموج بالصراعات: القيصرية التي حاولت إخضاع المسلمين، ثم الحقبة السوفييتية التي سعت لاجتثاث الدين. ومع ذلك لم يتراجع عن رسالته، بل استمر متنقلًا بين موسكو وإسطنبول والقاهرة ودمشق، محاضرًا وكاتبًا، ينحت خطابًا جديدًا يثبت أن الإسلام قادر على الحوار مع الثقافات الأخرى دون أن يفقد ذاته. بهذا المعنى، سبق زمانه في إدراك أن التعدد الثقافي والديني ليس خطرًا، بل فرصة لصياغة هوية إسلامية أكثر رحابة.

ما يجعل موسى جار الله أكثر حضورًا في الذاكرة الفكرية أنه لم يكن انعزاليًا ولا تابعًا. قاوم الضغوط السياسية والإيديولوجية، وظلّ ثابتًا على قناعته بأن الإسلام مشروع نهضة إنسانية. وحتى وهو يعيش المطاردة والمنفى، ظلّ صوته عاليًا يدعو إلى إصلاح التعليم، وإلى تجديد الفقه، وإلى تحرير الخطاب الديني من الاستخدام السياسي. لقد جسّد نموذج المفكر الذي يمارس “الاجتهاد الجسري”؛ اجتهاد يعبر من النص إلى الواقع، من المحلية إلى الكونية، ومن الجمود إلى الحرية.

اليوم، حين يواجه المسلمون أسئلة كبرى حول الهوية والعولمة والتجديد، تبدو أفكار موسى جار الله حاضرة بإلحاح. فهو يذكّرنا بأن الهوية لا تصان بالانغلاق، بل بالقدرة على الانفتاح الواعي. ويعلمنا أن الدين إذا حُصر في الطقوس ضاع جوهره، وإذا تحوّل إلى مشروع للهيمنة فقد رسالته. إن فكره الإصلاحي يعيد إلينا الثقة بأن الإسلام يمكن أن يكون قوة تحرّر وعمران، لا مجرد تركة ماضوية.

موسى جار الله، بهذا المعنى، ليس شخصية تاريخية من الماضي فحسب، بل هو رمز لما يمكن أن ينجزه العقل الإصلاحي حين يجمع بين صدق الالتزام وشجاعة الفكر. إن سيرته تقول لنا إن الجسور بين الثقافات ليست ترفًا معرفيًا، بل شرطًا للبقاء والتجدد. ولعلّ أعظم إنجاز له أنه نجح في أن يكون ضميرًا مشتركًا بين المسلمين في روسيا والعالم العربي، رابطًا بين ضفتين، ومؤكدًا أن الإسلام في كل زمان ومكان قادر على أن يولّد طاقات حياة جديدة إذا وُجدت العقول المؤمنة بالاجتهاد والحرية.