قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
عاجل
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. هبة عيد تكتب: الفجوة بين من يعاني.. ومن يُدرك أنه يعاني

د. هبة عيد
د. هبة عيد

في الحياة النفسية، لا يكمن الألم دائمًا في المعاناة نفسها، بل في المسافة بين من يتألم بصمت، ومن يمتلك الوعي الكافي ليرى هذا الألم ويعترف به. تلك الفجوة اللامرئية كثيرًا ما تكون السبب الحقيقي وراء تأخر العلاج، وتعقيد العلاقات، واستمرار الدوائر المؤلمة دون نهاية واضحة.

كثيرون يعيشون مع مشاعر مضطربة، أو تصرفات مؤذية للذات ولمن حولهم، لكنهم لا يدركون حقيقتها، ولا يعترفون بها، وكأنهم يسيرون في طرق مظلمة يرفضون إضاءة المصباح فيها. يستخدم العقل آليات دفاع قوية مثل الإنكار، الذي يحمي الصورة الداخلية من الانهيار، والإسقاط، الذي يُلقي ما بداخل النفس على الآخرين، فيبدو كل شيء خطأ من حولهم، لا فيهم. وهكذا تتشكل جدران غير مرئية تمنعهم من رؤية ما يدور بداخلهم بصدق.

ولكن في المقابل، هناك من يمتلك حسًّا نفسيًا عاليًا، فيشعر بثِقل المعاناة ويدركها بوضوح، فيبدأ رحلة البحث عن إجابات، وعن توازن يعيد له سلامه الداخلي. هذا الطرف غالبًا ما يكون من الضحايا أو المقربين، الذين يتأثرون سلوكيًا وعاطفيًا بسلوك شخص مضطرب لا يعترف بمشكلته. فيجدون أنفسهم أمام مسؤوليتين متناقضتين سواء فهم الألم الداخلي للطرف الآخر، أو حماية أنفسهم من تأثيره في الوقت ذاته.

وتكشف النظريات النفسية أن هذه الفجوة ليست سطحية، بل عميقة الجذور. نظرية الإنكار ترى أن بعض الأشخاص يبنون دفاعاتهم النفسية على تجاهل المشكلة بالكامل، كي لا يواجهون هشاشتهم الداخلية. أما نظرية الإسقاط فتكشف كيف يمكن للفرد أن يُسقط صراعاته ومخاوفه على الآخرين، فيراهم سبب معاناته، بينما الحقيقة كامنة في ذاته. ونظريات العلاقات الموضوعية والتعلق توضّح كيف تساهم الخبرات المبكرة في بناء أنماط تعامل لاحقة مشوشة، يصعب على صاحبها إدراكها دون مساعدة واعية.

والنتيجة أن من يُدرك المعاناة غالبًا ما يكون أول من يلجأ إلى طلب الدعم، بينما من يعاني دون وعي يظل يدور في دائرة مغلقة من الإنكار والتبرير. هذه الفجوة لا تُعالج باللوم، بل بالفهم، والتوعية، وإيجاد بيئة تساعد على الاعتراف والمصارحة.

لذلك تظل الفجوة بين المعاناة وإدراكها مساحة صامتة لا يراها الجميع، لكنها تحدد مصير الكثير من العلاقات والقلوب. لا يمكن للجسر أن يُبنى من طرف واحد، ولا للتعافي أن يبدأ من إنكار، فالمصارحة مع الذات هي المفتاح الأول لكل شفاء. وحين يلتقي الوعي بالوجع، تبدأ رحلة التحوّل الحقيقية رحلة تعيد للنفس اتزانها، وللعلاقات صدقها، وللحياة هدوءها الداخلي من جديد.