في أعماق المحيط الهادئ، وعلى بٌعد آلاف من الأمتار تحت سطح البحر، وجد العلماء أنفسهم أمام اكتشاف مذهل قد يعيد رسم فهمنا لتاريخ الحياة على الأرض. لطالما اعتقد العلماء أن النباتات وغيرها من الكائنات الحية التي تعتمد على ضوء الشمس وعملية التمثيل الضوئي هي المنتج الوحيد للأكسجين على الأرض. لكن عارضت دراسة جديدة منشورة في مجلة Nature Geoscience" "هذا الرأي، إذ تشير الى وجود مصدر أخر للحياه في الظلام الدامس وهو أكسجين الظلام (dark oxygen).
كيف يتولد الأكسجين في ظلام أعماق المحيطات الدامس؟
اكتشف العلماء هذا الاكتشاف أثناء أخذ عينات من قاع البحر في منطقة كلاريون-كليبرتون شرق المحيط الهادئ. عندما اكتشفوا وجود الأكسجين على عمق 13 ألف قدم تحت الماء، في مناطق مظلمة للغاية تستحيل فيها عملية التمثيل الضوئي، ظنّوا في البداية أن معداتهم قد تعطلت. في النهاية، اشتبهوا في أن العُقد متعددة المعادن هي مصدر هذا الأكسجين.
ماهى العُقد متعددة المعادن؟
هي عُقَد أو حبات يتراوح حجمها بين 2 و 8 سنتيميتر، وقد يصل حجمها في بعض الأحيان إلى 20 سنتيمتر. وتوجد على عمق يتراوح بين 3 و 6 آلاف متر تحت سطح البحر وتتميز بلونها الأسود. تغطي هذه العُقد متعددة المعادن مساحات شاسعة من قاع المحيط, وتكثر في المناطق قبالة الساحل الغربي للمكسيك في المحيط الهادئ (المعروفة بمنطقة صدع كلاريون- كليبرتون)، وحوض المحيط الهندي الأوسط، وحوض بيرو.
تتكون هذه العُقد في الأساس من هيدروكسيدات الحديد المترسبة وأكاسيد المنغنيز, وتكمن اهميتها انها تجذب المعادن الأخرى، مثل النيكل والنحاس والكوبالت والمنغنيز، بالإضافة إلى العناصر النادرة. تتشكل العُقد متعددة المعادن ببطء شديد على مدى ملايين السنين من خلال ترسب المعادن من مياه البحر والتربه.
ففي الطبيعة عند تفاعل الصدأ مع الماء المالح، تتولّد طاقة كهربائية كافية لتحليل الماء كهربائيا وتحرير الأكسجين. يعتقد الباحثون أن العُقد تؤدي الوظيفة نفسها عبر تفاعل كهروكيميائي يحدث على سطحها ينتج عنه تحرير ذرة الأكسجين من جزئ الماء دون الحاجة لضوء الشمس.
في المختبر، وجدوا أن عُقيدة واحدة تُنتج ما يقارب فولتًا واحدًا من الكهرباء، وعند تجمع عدد منها تستطيع تُولّيد طاقة كافية لفصل مياه البحر وتحرير الأكسجين. حيث تعمل العُقد كـ"بطاريات جيولوجية"، تستمد طاقتها من الفروق الكهربائية بين طبقاتها المعدنية. كلما زادت مساحة السطح ، زادت قدرتها على إنتاج الأكسجين، ما يربط بين حجم العُقد ونشاطها الكيميائي. هذا الاكتشاف يعيد النظر في الفرضية السائدة التي تُعزي انتاج الأكسجين الجوي لعملية البناء الضوئي فقط، ويدعم إمكانية وجود مصادر بديلة للأكسجين ساهمت في تطور الحياة المعقدة في بيئات معزولة عن أسباب الحياه التقليدية.
الجدل العلمي والتحديات
بالرغم من أهمية هذا الاكتشاف، واجه الفريق البحثي انتقادات من بعض العلماء وشركات التعدين العميق، ومنها شركة The Metals Company التي مولت بالفعل جزءاً من الدراسة والتي تخطط استغلال هذه العُقد لاستخراج المعادن المستخدمة في التكنولوجيا الحديثة. هؤلاء النقاد طالبوا بأدلة أقوى، مؤكدين أن "الادعاءات الاستثنائية تتطلب أدلة استثنائية. رداً على الجدل، يخطط فريق البحث لإطلاق مشروع جديد يمتد لثلاث سنوات، بدعم مالي من مؤسسة نيپون اليابانية، لاستكشاف هذه الظاهرة بشكل أعمق.
تداعيات الاكتشاف على علوم الحياة واستكشاف الفضاء
إذا كان من الممكن انتاج الأكسجين دون الحاجة لضوء الشمس، فإن ذلك يوسع آفاق البحث عن الحياة في بيئات أخرى، مثل الكواكب والأقمار الباردة والمظلمة التي تفتقر إلى ضوء الشمس. بالفعل، يجري الفريق حوارات مع خبراء في وكالة ناسا حول كيف يمكن لأكسجين الظلام أن يعيد تشكيل فهمنا لكيفية دعم الحياة في الفضاء.
الأهمية الأقتصادية للعقد متعددة المعادن
الجدير بالذكر ان هذه العُقد ذات أهمية اقتصادية كبيره بسبب احتوائها على معادن أساسية تستخدم في صناعة الإلكترونيات والبطاريات وتقنيات الطاقة المتجددة. فمنذ اكتشافها خلال رحلة سفينة إتش إم إس تشالنجر في المحيط الأطلسي بين عامي 1872 و1876. حظيت العُقد متعددة المعادن باهتمام تجاري واسع, خاصة في ستينيات القرن الماضي من قِبل العديد من شركات الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا الغربية واليابان وكندا ودول صناعية أخرى. ففي عام 2001، أصدرت الهيئة الدولية لقاع البحار أول عقد لتنظيم استكشاف العُقد متعددة المعادن في منطقة كلاريون - كليبرتون، و جزر كوك والأستغلال المستقبلي لهذه الرواسب ضمن منطقتها الاقتصادية, وذلك للتوسع فى تعدين الأعماق واستخراج العُقد.
دعوة للتريث في استغلال أعماق البحار
بعيدا عن الصراع الدائر حاليا على حقوق التعدين والتنقيب في اعماق البحارفي ظل هذه الاكتشافات، يُعد التعدين في أعماق البحار من أخطر الأنشطة البشرية على النظام البيئي البحري، حيث يؤدي إلى اضطرابات واسعة النطاق في بيئات قاع المحيط الهشة. مثل إثارة كميات ضخمة من الرواسب الدقيقة التي قد تخنق الكائنات الدقيقة والحيوانات القاعية، ما يؤدي إلى انخفاض كبير في أعدادها. بالإضافة إلى ذلك، يتسبب التعدين في أعماق البحار في تدمير المواطن الطبيعية للكائنات المرتبطة بتكوينات قاع البحر، ويعرضها لمخاطر الضوضاء والاهتزازات الناتجة عن المعدات، و يهدد توافر الأكسجين في هذه البيئات، ما يؤثر على الوظائف الحيوية لهذه الكائنات. تشير دراسات سابقة إلى أن مثل هذه التأثيرات قد تكون طويلة الأمد أو حتى غير قابلة للإصلاح، خاصة في ظل ضعف تعافي النظم البيئية العميقة مقارنة بالأنظمة الساحلية. لذلك يجب الحذر من التوسع في انشطة التعدين في أعماق البحار دون فهم كامل لعواقبه على الحياة البحرية والتوازن البيئي.
خاتمة
أكسجين الظلام هو اكتشاف علمي ثوري يغير قواعد فهمنا لكيمياء المحيطات ونشأة الحياة. البحث المستمر في هذه الظاهرة قد يفتح آفاقاً جديدة في علوم الأرض والفضاء. كما يذكرنا بأن أعماق البحار ما زالت تخفي أسرارًا قد تغير نظرتنا للحياة، وتضعنا أمام مسؤولية كبيرة في كيفية التعامل مع موارد أعماق البحار.