كشفت تقارير إخبارية مؤلمة، نقلتها وكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب) وعرضتها قناة "العربية"، عن جانب إنساني مظلم للحرب السودانية، حيث تعيش عشرات العائلات في كولومبيا حالة من الترقب والانتظار لاستعادة جثامين أبنائهم الذين قُتلوا أثناء مشاركتهم كمرتزقة في العمليات العسكرية بالسودان.
هذه العائلات، التي تفاجأت بمصير أبنائها في قارة بعيدة، لم تعد تطالب بالرواتب والمزايا المالية التي وُعد بها المقاتلون، بل بات حلمها الوحيد هو إلقاء نظرة الوداع الأخيرة ودفن ذويها في مسقط رأسهم، بعد أن تحولت "مغامرة المال" إلى مأساة جنائزية عابرة للمحيطات.
الفقر الذي قاد إلى الموت
تعكس قصص هؤلاء القتلى ظاهرة خطيرة في كولومبيا، حيث يتم استهداف الجنود المتقاعدين الذين يعانون من ظروف اقتصادية صعبة وتغريرهم برواتب مغرية (تصل أحياناً إلى آلاف الدولارات شهرياً) للقتال في نزاعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
وتشير شهادات الأهالي إلى أن أبناءهم غادروا البلاد تحت مسميات "وظائف أمنية خاصة" أو "حماية منشآت"، ليكتشفوا لاحقاً أنهم في الخطوط الأمامية لحصار مدن سودانية مثل الفاشر.
إن مقتل هؤلاء الجنود السابقين في أدغال أفريقيا يثبت أن "الاحتراف العسكري" لا يحمي المرتزقة من شراسة الحروب الأهلية، وأن شركات التجنيد غالباً ما تتخلى عن مقاتليها وعائلاتهم بمجرد سقوطهم في ميدان المعركة.
المعضلة القانونية واللوجستية: من يعيد الجثامين؟
تواجه العائلات الكولومبية اليوم عقبات قانونية ولوجستية هائلة؛ فبما أن هؤلاء المقاتلين ذهبوا عبر شبكات غير رسمية أو "مقاولين عسكريين" مدرجين على قوائم العقوبات، فإن الحكومة الكولومبية تجد صعوبة في التدخل رسمياً لاستعادة الجثث.
كما أن الدولة السودانية التي تعيش حالة حرب طاحنة لا تملك قنوات دبلوماسية فاعلة لتنظيم عمليات نقل الرفات.
هذا الوضع يترك الجثامين عرضة للدفن في مقابر جماعية مجهولة، أو البقاء في ثلاجات الموتى في ظروف غير ملائمة، مما يزيد من العذاب النفسي للأمهات والزوجات اللواتي ينتظرن في الطرف الآخر من العالم خبراً ينهي حيرتهن.
تجارة المرتزقة
على الصعيد الدولي، يمثل انتظار العائلات لجثث أبنائهم صرخة إدانة ضد "تجارة المرتزقة" التي تستهين بالحياة البشرية. إن الشركات والوسطاء ومن بينهم العقلاء الكولومبيون السابقون الذين يديرون هذه الشبكات لصالح أطراف الصراع في السودان يتحملون المسؤولية الأخلاقية والقانونية الكاملة عن هذه الأرواح.
ويرى مراقبون أن صمت أطراف النزاع في السودان (وتحديداً القوى التي استقدمت هؤلاء المرتزقة) عن مصير القتلى الأجانب يهدف إلى إخفاء حجم التورط الأجنبي في الحرب، وتجنب المساءلة الدولية حول استخدام "جنود مأجورين" في عمليات ترقى إلى جرائم حرب ضد المدنيين.
رسالة تحذير للأجيال القادمه
تمثل هذه المأساة درساً قاسياً للجنود المتقاعدين في أمريكا اللاتينية وحول العالم؛ فالحروب التي تُخاض من أجل "التعاقدات المالية" غالباً ما تنتهي بلا مجد وبلا اعتراف.
إن دماء هؤلاء الكولومبيين التي سالت في السودان لم تخدم قضية وطنية، بل كانت وقوداً لصراع سلطة محلي استغل حاجتهم المادية.
إن مناظر العائلات المكلومة في كولومبيا يجب أن تكون دافعاً للمجتمع الدولي لتشديد الرقابة على شركات الأمن الخاصة وتجريم "تصدير المقاتلين"، لضمان ألا تتحول الأزمات الإنسانية في أفريقيا إلى فرص ربحية لـ "تجار الموت" العابرين للحدود.
الموت بلا هوية
ختاماً، يبقى مصير جثث المرتزقة الكولومبيين معلقاً بين تعقيدات الحرب في السودان وعجز الإجراءات في كولومبيا.
إن هؤلاء المقاتلين الذين ذهبوا "بحثاً عن مستقبل أفضل لعائلاتهم" عادوا (أو لم يعودوا) في صناديق خشبية، تاركين خلفهم حزناً لا تمحوه الأموال و وصمة عار تلاحق كل من ساهم في إرسالهم إلى تلك الحرب.
إن صرخة تلك العائلات هي تذكير للعالم بأن الحرب في السودان لم تعد تحرق السودانيين وحدهم، بل امتدت نيرانها لتكوي قلوب أسر فقيرة في أقاصي الأرض، في مشهد يجسد أبشع صور العولمة في العصر الحديث.