قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إنه مع انتهاء عامٍ وبدء عامٍ جديدٍ يستطيع المسلم أن يبدأ مع ربِّه صفحةً جديدة؛ وقد رأينا الشرعَ وهو يدعو دائمًا إلى التجديد، فيقول رسولُ الله ﷺ: «جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ». قيل: يا رسولَ الله، وكيف نُجَدِّدُ إيمانَنا؟ قال: «أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» (أحمد). فالرغبةُ في التجديد نجدها دائمًا في ثنايا الأوامر الإلهية؛ قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الذاريات: 55)، والشرع يقول لنا دائمًا: هيا نبدأ من جديد؛ وهو أمرٌ يتناسب مع الضعف البشري، وفي الحديث: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» (الترمذي). فكثرةُ التوبة تتناسب مع كثرة الخطأ، وقد خُلِق الإنسانُ ضعيفًا.
وأضاف جمعة، فى منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الإجتماعي فيسبوك، أنه يُعين على فكرة التجديد هذه المحطاتُ التي يغفر الله لنا ما بينها؛ ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله ﷺ كان يقول: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» (مسلم).
وأشار الى أنه قد أرشدنا أهلُ الله من المسلمين في طريق سلوكهم إلى ربِّ العالمين إلى برنامجٍ يتمثل في أربعة عناصر: «قلّة الطعام، وقلّة الكلام، وقلّة المنام، وقلّة الأنام».
أولًا: قلّة الطعام:
فالنبي ﷺ يقول: «حَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ» (الترمذي). وكان ﷺ يصوم يومَيِ الاثنين والخميس، وكان يصوم ثلاثة أيام من وسط الشهر: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وكان يصوم يوم عاشوراء، وكان يصوم الستَّ من شوال، وفي بعض الأحيان كان يصوم شهرَ المحرَّمِ كله أو شهرَ شعبانَ كله كما ورد في الحديث. ومن جمع كثيرًا من هذا وجد كأنه يصوم قريبًا من نصف السنة خلا رمضان. وكان يقول ﷺ: «أَعْدَلُ الصِّيَامِ عِنْدَ اللهِ هُوَ صِيَامُ دَاوُدَ؛ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا» (البخاري).
ثانيًا: قلّة الكلام:
نهانا الله سبحانه وتعالى عن اللغو، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ (المؤمنون: 3)، وقال: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ (الفرقان: 72). وفي حديث معاذٍ رضي الله عنه لما سأل النبيَّ ﷺ: وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قال: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ!» (الترمذي). وكان ﷺ يقول: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْدًا فِي الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ، فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُلَقَّى الْحِكْمَةَ» (ابن ماجه). ومدح الله سبحانه وتعالى هذا الصنف فقال: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (البقرة: 269). وكان ﷺ يقول: «مَنْ يَضْمَنُ لِي مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» (البخاري). ولو أن الناس وضعوا هذا في برنامجهم اليومي لتغيّر وجهُ الاجتماع البشري من الصدام إلى الوفاق، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن العنف إلى الود.
ثالثًا: قلّة المنام:
وهي علامةٌ على كثرة العمل، ونراها في الإرشادات الإلهية؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ (المزمل: 1–4)، وقال تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ (الإسراء: 79). وتدريب الجسد على قلّة المنام أمرٌ يحتاج إلى أناةٍ وصبرٍ ومعالجةٍ بالحكمة حتى لا يُصاب الإنسانُ بأي ضرر؛ فإن المنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.
رابعًا: قلّة الأنام:
نُظِّمت في الدين بالاعتكاف؛ قال تعالى مخاطبًا إبراهيمَ وإسماعيل: ﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (البقرة: 125). ثم أيَّد الإسلام ذلك؛ فكان النبي ﷺ يعتكف العشرَ الأواخرَ من رمضان، وقد جاءه الوحي وهو متعبدٌ في غار حراء، حيث كان يتعبد الليالي ذواتِ العدد بعيدًا عن الناس. وهذا يتيح للإنسان فرصةً لمراجعة النفس والتأمل في كيفية الخروج من العيوب، واتخاذ قراراتٍ لتعديل السلوك وتغييره.

