ماذا حدث في تركيا في 15 (يوليو) 2016، في ليلة الجمعة على السبت؟
هل وقع حقا انقلاب عسكري تمحورت تحركاته الرئيسية في إسطنبول وأنقرة؟
وهل حقا نفذ الانقلاب القوات المسلحة التركية التي أنجزت بنجاح في الأربعين عاما الماضية، خمسة انقلابات عسكرية، ولكنها فشلت في المحاولة السادسة. وكان أول محاولاتها الانقلابية في عام 1960، وقاده يومئذ الجنرال جمال غورسيل الذي كان يستقبل في شوارع أنقرة (كما شاهدت بنفسي، حيث أنني كاعلامي، قد غطيت هذا الانقلاب، وكان أول انقلاب عسكري أغطيه إعلاميا)، بهتاف الجماهير التركية القائل: "يا يا يا ... تشا تشا تشاه ...جمال غورسيل... تشوك يا شاه"، بمعنى أن غورسيل بطل أو رجل عظيم.
ولم أغط بنفسي الانقلاب العسكري التركي الثاني، الذي وقع في عام 1971 لتواجدي في بيروت وانشغالي بتغطية الحرب الأهلية في لبنان، لكني تابعته باهتمام، وأذكر أنه قد وصف يومئذ بانقلاب "المذكرة"، لكون القوات المسلحة التركية، لم تضطر الى محاصرة موقع رئيس الوزراء سليمان ديمريل لاجباره على الاستقالة، إذ اكتفت القيادة المسلحة التركية يومئذ، بإرسال مذكرة مكتوبة للرئيس ديمريل، تأمره بالاستقالة. فاستقال رئيس الوزراء صاغرا دون أي مناقشة، وعينت القوات المسلحة عندئذ حكومة جديدة سمت هي أعضاءها.
ثم وقع الانقلاب الثالث في عام 1980 (أي بمعدل انقلاب عسكري كل عشر سنوان تقريبا)، وقاده يومئذ الجنرال كنعان ايفريت، وتلاه الانقلاب الرابع في عام 1997، أي بعد صمت وسكون للقوات التركية المسلحة دام هذه المرة 17 عاما. وتلاه بعد أربع سنوات هذه المرة، الانقلاب الخامس في عام 2001، وكان أشبه بالانقلاب الثاني، انقلاب المذكرة، عندما طالبت القوات المسلحة رئيس الوزراء نجم الدين أربكان، رئيس حزب الرفاه الاسلامي الاتجاه، بالاستقالة، فاستقال طوعا ودون أي مقاومة، علما أن حزب الرئيس أردوغان الاسلامي، بات الوريث الشرعي لحزب الرفاه، لكن هذه المرة باسم حزب العدالة والتنمية.
ثم وقع الانقلاب العسكري السادس في ليلة 15 يوليو من العام الحالي. ولم يكن انقلابا بمذكرة، بل كان انقلابا عسكريا مسلحا بكل معنى الكلمة، شارك فيه الجيش الثاني التركي، والجيش الثالث، وسلاح البحرية، وحرس الحدود، بل وسلاح الجو أيضا (تم عزل كل قادة هذه الأسلحة بعد فشل الانقلاب واعتقال بعضهم)، ومع ذلك فشل الانقلاب السادس خلافا لما سبقه من انقلابات عسكرية خمسة، رغم مشاركة سلاح الجو فيه، علما أن مشاركة سلاح الجو في انقلاب ما، هو العنصر الفاصل عادة في انجاح الانقلاب من عدمه.
وكلنا نذكر انقلاب شهر تشرين عام 1970 في سوريا، والذي سمي بالحركة التصحيحية التي أدت الى اسقاط حكومة صلاح جديد ونور الدين الأتاسي البعثية رغم ولاء عدة قطعات من الجيش لها، وكان سبب نجاح الحركة التصحيحية السورية، أن من قادها كان الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي كان وزيرا للدفاع، لكن الأهم من ذلك، كان أيضا قائدا لسلاح الجو، فحسم سلاح الجو يومئذ الصراع لمصلحة قائده، لكون سلاح الجو هو السلاح المفصل في نزاعات عسكرية كهذه.
ولكن سلاح الجو التركي الذي سيطر على مطاري اسطنبول وانقره، وأغلق الأجواء التركية في وجه تحليق الطائرات المدنية والعسكرية غير الموالية، لم يستطع أن يحسم الأمر لمصلحة الانقلابيين. لماذا؟ لأن جزءا من سلاح الجو (ربما طائرة واحدة من طائراته) ظل على ولائه للرئيس أردوغان، وقد قامت طائرة F16، باسقاط مروحية كانت تهاجم مقر أجهزة المخابرات التي لم تشارك في العملية الانقلابية.
فما الذي حدث اذن في تركيا في ليلة 15 تموز؟ هل كان ما جرى انقلابا حقيقيا، لكنه فشل نتيجة نزول الجماهير الى الشارع بناء على توجيه أردوغان نداء لهم عبر احدى القنوات التلفزيونية مستخدما الهاتف لايصال رسالته، مطالبا الجماهير بالنزول الى الشارع للدفاع عن الشرعية والديمقراطية، فهرولت تلك الجماهير بسرعة مذهلة، (وكأن الاعداد لها قد تم مسبقا)، للنزول فعلا الى الشارع والتصدي لدبابات الانقلابيين، مذكرا بذاك التصرف، بسابقة مشابهة ساهم فيها نزول الشعب الى الشارع، في تغيير مجرى الأحداث، وذلك ما حدث في القاهرة في التاسع والعاشر من حزيران (يونيو) عام 1967، عندما أعلن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر استقالته من كافة مناصبه، فنزلت الجماهير المصرية بكثافة الى الشارع، مطالبة اياه بالعودة عن الاستقالة، ولعب نزول الجماهير المصرية الى الشارع يومئذ، دورا هاما باحداث تغيير هام حال دون استيلاء اليمين المصري على السلطة في مرحلة حساسة كان فيها النظام القومي القائم يومئذ، في أحلك وأضعف حالاته، نتيجة الهزيمة التي لحقت بمصر يومئذ في حرب عام 1967.
أم أن ما حدث في تركيا في تلك الليلة، ليلة 15 تموز، كان مسرحية أردوغانية مفبركة، تسعى لتحقيق عدة تطورات لمصلحة الرئيس أردوغان، كما أشار بعض المعلقين ومنهم الكاتب المغربي " مصطفى هال بابا" الذي نشر مقالا عنوانه "فيلم ليلة الانقلاب على أردوغان"، وتساءل فيه عن الأسباب التي استدعت الانقلابيين الذي يملكون السيطرة على معظم سلاح الجو، بالتركيز على قصف مبنى البرلمان الذي ليست لديه قوة عسكرية تجابه الانقلابيين، كما يركز على الهيمنة على الجسرين المعلقين اللذين يربطان تركيا الآسيوية بتركيا الأوروبية، ولم يفكر ذاك السلاح الجبار، بقصف مقر اقامة الرئيس أردوغان الذي كان يمضي اجازة عائلية على أحد شواطىء تركيا، والذي يرجح أن موقعه لا بد كان معروفا للانقلابيين ولقيادة القوات المسلحة التي سيطر عليها الانقلابيون وأسروا رئيس أركانها؟ فقصف مقر تواجد الرئيس أردوغان في مدينة ساحلية صغيرة، كانت له أهمية أكبر من قصف البرلمان والسيطرة عل الجسرين، اذ كان من المحتمل أن يؤدي الى مقتل الرئيس، وفي أدنى الحالات، الى ارباكه واضطراره للفرار من موقع الى آخر تجنبا للطائرات المغيرة التي يفتارض بها أن تطارده، وبالتالي عدم التفرغ لتولي عملية المقاومة بتوجيه نداء للجماهير بالنزول الى الشارع التركي؟
وهذا التشكيك بأصالة الانقلاب العسكري، لم يصدر فحسب عن كتاب ومحللين، بل صدر أيضا عن فتح الله غولان، الصديق والحليف السابق لأردوغان، والذي نشب خلاف بينهما حول صيغة وصبغة الاسلام المطلوب تنفيذه في تركيا: هل هو الاسلام الاجتماعي كما يطالب غولان، ويعززه بفتح مئات المدارس هنا وهناك في أنحاء المعمورة، ومنها 165 مدرسة في الولايات المتحدة.. وهي الرؤية التي تتعارض مع رؤية أردوغان الذي يرغب باحلال الاسلام السياسي لا الاجتماعي، في تركيا وأنحاء أخرى من العالم. فالداعية فتح الله غولان الذي شجب الانقلاب العسكري، قد شكك علنا بأن الانقلاب قد يكون مفبركا.
ان ما يرجح هذا الاحتمال أو ذاك، هو التوجه القادم (بعد الانقلاب) للرئيس أردوغان. فاذا توجه نحو مزيد من التشدد، ومن اقرار مزيد من الخطوات التي كان يسعى اليها، لكنها كانت تجابه بالعثرات وبالاعتراضات من عدة أحزاب تركية معارضة، سيبدأ الترجيح عندئذ بأن الانقلاب كان مفبركا، وكان انقلابا أردوغانيا على أردوغان، بغية تمهيد الطريق لاقرار كل مطالبه بالتغيير، ومنه التغيير نحو النظام الرئاسي، والتغيير لالغاء الصبغة العلمانية الأتاتوركية عن الدستور التركي، والذي من أجل الحفاظ عليها، نفذت القوات المسلحة التركية خمسة انقلابات عسكرية خلال أربعين عاما... واحلال الصبغة الاسلامية على الدستور، بوضع نص يقول أن دين الدولة هو الاسلام، والاسلام هو مصدر التشريع في تركيا، الأمر الذي حاول طرحه على البرلمان التركي قبل عدة شهور، فتصدت الأحزاب المعارضة له وحالت دون اقرار مشروعه ذاك.
فهل كان الانقلاب العسكري انقلابا حقيقيا، أم كان انقلابا أردوغانيا استباقيا، سعى اليه أردوغان لاحباط احتمال وقوع انقلاب عسكري حقيقي، أسوة بالانقلابات العسكرية الخمسة السابقة، وذلك لحماية العلمانية الدمقراطية من الضياع في تركيا؟
ليعرف العالم حقيقة ما حدث، لا بد له أن ينتظر ليقرأ الى ما ستتوجه الخطوات الأردوغانية القادمة، علما أن الكثير من المؤشرات قد بدأت في الظهور، موحية بأن أردوغان يتوجه فعلا نحو التشدد، والى ارساء صبغة الاسلام السياسي على الدولة التركية بدليل حملة التطهير التي يقودها فى صفوف رجال القضاء والجيش والتي أسفرت عن اعفاء المئات منهم حتى الأن .
كما شكل الانقلاب مناسبة لمطالبة الولايات المتحدة باعتقال فتح الله غولان وتسليمه للعدالة التركية، باعتباره المخطط للانقلاب والمشجع على تنفيذه، ويعترف المعلق السياسي التركي محمد غل، بأنه هناك مكتب محاماة في واشنطن معتمد من قبل تركيا، لاعداد مذكرة المطالبة بتسليم غولان لتركيا. ويعترف أيضا، بأن المكتب يعمل في هذا الشأن منذ فترة من الزمان، أي قبل وقوع الانقلاب العسكري، مما يوحي بأن وقوع الانقلاب، قد عزز موقف أردوغان بالمطالبة باعتقال غولان الذي كان يستند لأسباب ضعيفة واهية، فجاء الانقلاب واتهام غولان بالوقوف وراءه، مناسبة لتعزيز المطالبة الأردوغانية بتسليم غولن لتركيا، والتي كانت تستند لمبررات وأسباب واهية، قبل وقوع الانقلاب. فجاء الانقلاب ليعزز المطلب الأردوغاني بتسليمه لتركيا.
ومسألة التوجه نحو التشدد عوضا عن الاعتدال وتصحيح مسارات علاقاته، سواء في الداخل أو مع الخارج، بما في ذلك من تحقيق مزيد من الخنق للديمقراطية وللحريات في الداخل، والتي كان قد ضرب بها أردوغان عرض الحائط أحيانا، فكم الأفواه واعتقل صحفيين وأغلق صحف، مما أدى لعديد من الانتقادات الصادرة عن الاتحاد الأوروبي الذي يتعامل بحذر مع تركيا نظرا لتجاهلها أبسط مبادىء الحرية وحقوق الانسان... هذه المخاوف من تراجع الدمقراطية، يمكن لمسها بين سطور الخطابات التي القاها اليوم في الجلسة الخاصة للبرلمان التركي بمناسبة انتهاء الانقلاب، عدد من زعماء الأحزاب وأبرزهم رئيس حزب الشعب الجمهوري "قليتش دار أوغلو" الذي أكد على أهمية الدمقراطية التي من أجل الحفاظ عليها، بادر كل رؤساء احزاب المعارضة للتنديد بالانقلاب، باعتباره خطوة للحد من الدمقراطية والشرعية التي هي أحد أصول الدمقراطية.
إذن ما الذي حدث في تركيا في ليلة الخامس عشر من حزيران؟ هل كان انقلابا حقيقيا رغم ما بدت فيه من سذاجة في التنفيذ، أم حركة استباقية؟ لا أحد يعلم بعد على وجه اليقين، وقد لا نعلم قبل مرور بضعة أسابيع على ذاك الحدث الموصوف بالجلل، لما حمله معه من احتمالات انهاء للشرعية وللدمقراطية في تركيا. فالمرجو الآن، ألا يتخذ ذريعة لكم الأفواه والحد من الديمقراطية التي شجب الانقلاب حفاظا عليها.