خانة الديانة

متى يصير البشر إخوة يجمعهم روح الدين بدلًا من أن يفرقهم حَرْفُه؟.. "فرح أنطون".
سيدي القارئ، ليس هذا الفراغ المحدد في بطاقات التعريف والهوية والمسمى "خانة الديانة"، الذي تشغله كلمة "مسلم" أو "مسيحي" هو المميز الحقيقي لهوية المصري الدينية، والذي بإلغائه سوف تنتهي وإلى الأبد حالة التمييز الطائفي بين المسلمين والمسيحيين في مصر، كما أنها ليست خطوة على الطريق لأن الطريق نفسه أطول من أن تقطعه الخطوة أو الخطوتان!
في رأيي أن خانة الديانة هذه تعبر عنها أشياء كثيرة، منها القول السائد بين الناس في مصر إن المسيحيين "أقلية"، ويترتب على هذا المعنى في اللاشعور لدى "الأغلبية" إحساس بالتفوق أو نشوة تميز الأكثرية، وينتج عنه سلوك تلقائي إما بالاضطهاد أو الإهمال أو على أفضل تقدير، التعاطف والتسامح، وهو سلوك المتفضِل على المُتفضَل عليه، الأمر الذي لا يجب أن يحكم العلاقة بين المسلم والمسيحي ولا يستقيم مع شعب تشكلت ثقافته في البدء على توحيد الإله وإعلاء شأن الدين والإيمان.
خانة الديانة هي الجهل بمعرفة أسس وثوابت وطقوس الدين الآخر، بل والادعاء بمعرفتها جهلًا وتعاليًا، فالكثير من المسلمين في مصر في واقع الأمر ليس لديهم معرفة حقيقية بالديانة المسيحية، بل ليس لديهم الرغبة في تلك المعرفة، هم فقط يكتفون بما لديهم من موروثات قديمة (ليست دينية في مجملها) تحدثهم عن المسيحي وما يعتقد وكيف يقيم شعائره وطقوسه واحتفالاته! ربما لا تنطبق كثيرًا تلك الحالة مع المسيحي، لأن الأغلبية الدينية في مصر مسلمة، والخطاب الديني الإسلامي بتنوعاته المختلفه مطروح على العموم بجزئياته وكلياته، ربما أكثر مما ينبغي.
خانة الديانة يمثلها حرمان المسيحي من تقلد مناصب بعينها، يعلمها الكافة، حتى لو لم ينص على ذلك قانون،
خانة الديانة هي التضييق على المسيحي في بناء كنائسه ووضع ضوابط وشروط معقدة للسماح له بذلك، وعدم إصدار قانون تنظيمي موحد لبناء دور العبادة للمسلمين والمسيحيين على السواء!
خانة الديانة هي الحديث باستمرار في كل مناسبة وبدون مناسبة عن الوحدة الوطنية بما تتضمنها من شعارها الأشهر "يحيا الهلال مع الصليب"، في حين أنه في ظل الوحدة الوطنية الحقيقية تنعدم تلك الشعارات أصلًا وتختفي تلك الخطابات كليًا.
خانة الديانة هي ظاهرة تفعيل "القبلية" على حساب سيادة القانون واحترامه لحل الأزمات الطائفية التي تنشب بين الحين والآخر في قرى الصعيد وغيرها.
خانة الديانة تلخصها كلمة "الآخر" المستخدمه بكثافة فجة، حال الحديث عن العيش المشترك والتعايش بين أبناء الوطن الواحد!
ما معنى أن تُحذَف من بطاقة الهوية خانة الدين لشخص اسمه يعبر بجلاء عن ديانته؟! ما معنى أن نغض الطرف عن ممارسات مقيتة وعنصرية بينما نتحين الفرصة للحديث عن التسامح! ما قيمة أن تضع ضمادة على جرح ملوث ، أليس الأحرى أن تطهره أولًا؟!
لماذا تتجاهل مناهج التعليم في المدارس تلك المناطق المشتركة الواسعة بين الإسلام والمسيحية، بينما تزكي الشعور بالاختلاف أحاديث التطرف والفتن، حتى ينشأ في اللاشعور لدى أبنائنا أننا اثنان، لا واحد؟
في ظني؛ أن المزج بين الدين والسياسة في فترات متعاقبة في تاريخ مصر والذي تولد عنه نشوء جماعات عنف باسم الدين وتكتلات راديكالية تعتمد نفي الغير وسيلة لبقائها، هو الذي فجر الأزمة بين أبناء الوطن الواحد، ربما كانت موجودة من قبل – أي الأزمة - ولكنها لم تحظ باهتمام وانتباه الناس فتركوها تنمو حتى نضجت وخرجت من نطاق التنظير إلى ميدان العمل المسلح والعنيف.
في ظل دولة مدنية حديثة تحتفل هذا العام بمرور مائة وخمسين عامًا على إنشاء أول برلمان بها لا ينبغي أن يجري فيها حديث عن أزمة طائفية قائمة أو محتملة، ولا ينبغي أن تتصدى الكنيسة لمطالب شعبها، لأن هذا الشأن يُفترض أنه يخص الدولة نفسها في المقام الأول، باعتبارها ضامنة لتحقيق المساواة بين أبناء الشعب الواحد مسلميه ومسيحييه.
لا بديل عن تفعيل القانون والالتزام بالدستور في تحقيق المساوة بين جميع المصريين وعدم التفرقة بينهم على أساس الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون أو اللغة أو المستوى الاجتماعي والانتماء السياسي أو الجغرافي أو أي سبب آخر.
لا بديل عن أن نبدأ من الآن في المشاركة بجدية في تنشئة جيل وطني لا يفرق بين المسلم والمسيحي إلا بالعمل الجاد، وبقدر عطائه لوطنه وخدمته له، بعدها سوف لا نكون في حاجة إلى حذف خانة الديانة، لأنها سوف تتلاشى من تلقاء نفسها.