الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

رضا نايل يكتب: كيف أموت؟!

الكاتب الصحفي رضا
الكاتب الصحفي رضا نايل

قطعت كلامها فجأة، والتفتت نحوي وعيناها السوداوان الصافيتان اللتان مازال الفرح بلقائنا يلمع فيهما كالنجوم تحدقان فيِّ، وتقاسيم وجهها تعبّر عن الدهشة والاستغراب، ثم سألتني:
- فيما تفكر؟!
فقد كنت أسمعها منذ التقينا، ولكن لم أستطع قول أي شئ، فربتت على كتفي مكررة سؤالها، فأجبتها بابتسامة ثقيلة قائلًا في لامبالاة:
- لا شئ 
قالت بصوت عذب ممزوج بأنوثة ودلال:
- كنتُ أظن أنك ستقول أفكر فيكِ!! 
رددت بفتور يتناقض مع شاعرية اللقاء، وأنا أجتر الكلمات:
- نقول ذلك عندما نريد أن نكذب 
قالت في نفسها لا أكره فيك شيئًا غير هذا الصدق السخيف الأحمق، ونظرت نحوي وهي لا تستطيع إخفاء ضجرها وغضبها الباديين في إحمرار وجهها، وسألت: 
- لماذا لا تكون كاذبًا؟!
انفرجت شفتاي بابتسامة لا إرادية، بها مِسحة من الحزن والألم، وأنا أسخر من نفسي، وألتمس لغضبها وضجرها الأسباب، لذا عدت إلى الصمت. 
فأشاحت بوجهها عني، ولوّحت بيدها عابسة، وقالت وفي نبرة صوتها المتقطع ألم وحزن: 
- لو ظللت هكذا سأمضي ولن تراني ثانية، فأنت تسخر مني بصمتك.
قلت في هدوء:
- هناك من يسخر منا نحن الاثنين!
رفعت حاجبيها متعجبة، وأفلتت يدي من يدها، وقالت شاهقة:
- آه .. رجعنا للفلسفة مرة أخرى
والتفتت نحوي، ورمتني بنظرة حادة، وقالت بسلطوية: 
- ألم تعدني بالتوقف عن القراءة؟!
- لم أقرأ كلمة منذ عام 
قالت في حدة والغضب يتقد في وجهها:
- أنت تكذب 
- لقد طلبت مني منذ قليل أن أكون كاذبًا
ضربت الأرض بقدميها، وتحوّل غضبها إلى هياج عصبي جعلها تفقد بوصلتها، فقد انتفخت أوداجها، وبدت من عينيها كراهية عاصفة تكاد تطفئ ما تبقى من ضوء يُنير علاقتنا، ونظرَت نحوي وهي تتفحص وجهي في تحدٍ، وتقاوم رغبة جامحة تلح عليها في صفعي، وقالت على غير المتوقع بصوت خفيض وهي تكتم شهيقها:
- أرجوك توقف
- عن الصمت أم الكلام، عن الكذب أم الصدق؟
- توقف عن إخافتي .. هكذا قالت بمرارة وحسرة وهي تُغمض عينيها برفق.
قلتُ في اضطراب: 
- أنا أحبك
ردت بصوت قادم من أعماقها، وهي ترفع عينيها المضطربتين كالبحر نحوي، ويداها متشابكتان بقوة وكأنها تستجمع كل ما تبقى لديها من قوة:
- بل تخيفني لحد الرعب
ثم أمسكت يديّ فجأة بقوة وكأنها تعتصرهما وهي تبكي، والعبرات تكاد تخنقها، ثم قالت بصوت متهدج ودموعها تتساقط على يديّ:
- توقف عن تلك الأشياء المخيفة 
نظرتُ إليها في حنان كأم تنظر لطفلها الباكي، وأنا أسألها في صمت عن أشيائي المخيفة؟!
فأجابتني بصوت ضعيف خائف، وهي تقبّل يديّ المبللة بدموعها:
- توقف عن التفكير، عن القراءة، عن الكتابة
ثم رفعت رأسها ونظرت نحوي في رقة وعذوبة دمعة مازالت عالقة بعينيها قائلة:
- مثلك مات دون أن يدري به أحد في مستشفى للأمراض العقلية أو معتقل.
ابتسمت..ونظرت في عينيها الممتلئتين بالخوف والآمال، ويداي تحتضن يديها، وأنا أتحدث معها في صمت عن الأحاسيس التي تختلج بداخلي، والأفكار التي تسكن دماغي، فبينما كانت تتحدث في بداية لقائنا عن الحب والشوق والعمر الذي ينتظرنا..وحرارة جسدها تسري عبر يدينا المتشابكتين في جسدي البارد كجثة، كنت أفكر أني لن أموت كما تظن دائمًا كمجنون أو في معتقل، فعما قريب سأنتحر..
فالوطن إما مستشفى للمجانين الذين يظنون أنهم أحرار، وإما معتقل للعقلاء الذين يحلمون بالحرية. 
سحبت يديها من بين يديّ، وهي تبتسم مسدلة جفنيها على صورتي المنعكسة في مرآة عينيها وقالت في يأس:
- لا فائدة..فكلما رجوتك التوقف عن إخافتي، كانت إجابتك الصمت. 
ومضت ولم تلتفت نحوي .....

رضا نايل