الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نهضة الأمة تبدأ بالمعلم


إذا أرادت أمة أن تنهض أو تبدل من حالة رثة لها إلى حال أفضل، لابد أن تهتم بالتعليم، الذي هو ليس مجرد استظهار لمعلومات، يقوم أحد المُحفِّظين بتلقينها لأطفال، أو تلاميذ أو طلاب جامعيين.

إن التعليم مهمة شاقة، وعملا ممنهجا، يلزمه توافر العديد من العناصر، ولأهميته توقف عنده كل الفلاسفة، وأغلب المثقفين، ولقد أتى له الشاعر الإنجليزي الشهير " جون مليتون"، الذي مارس، في دوره الإصلاحي، مهنة التعليم، نقول أتى " مليتون " للتعليم بتعريف قوي رائع : "أقول أن التعليم التام الواسع هو الذي يعد الإنسان لينهض، بحق ومهارة ورحابة صدر، بكل مهامه الخاصة والعامة في السلم والحرب، سواء بسواء" وأول واجب على المعلم، والكلام مازال للشاعر الإنجليزي الكبير، هو أن يغرس الخلق القويم في نفس التلميذ، وأن يعيد تكييف الخلق القومي تبعا لمتطلبات حياة المدنية حاليا.

كان هذا هو تعريف أحد نوابغ القرن السابع عشر بإنجلترا.

وفي عام 1938 تعرض عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين لعملية التعليم في مصر في كتابه الهام مستقبل الثقافة في مصر، وعرض المشكلات والتي كان من بينها ضغط الرأي العام على الحكومات المختلفة، التي ترضخ لأولياء الأمور الذين يريدون نجاح أبنائهم من ناحية، كما تخضع لتلك الزيادة التي يمثلها أطفال جدد يصلون لسن التعليم، من ناحية أخرى، فعلى الدولة أن توفر لهم أماكن الدراسة، ومن ثَمَّ تضطر الحكومة لنقل التلاميذ مهما كان مستواهم للصف التالي لإتاحة الأماكن للوافدين الجدد.
ورأى العميد طه حسين نفس ما رأى الشاعر الإنجليزي " جون مليتون " في أنه لا نهضة لأمةٍ إلا من خلال التعليم.
إذًا هذا أمر يتفق فيه الجميع، وهو ما شاهدناه بأم أعيننا في الدول التي يطلق عليها متحضرة مرة ومتطورة أخرى ومتقدمة ثالثة، تلك الدول التي نزح إليها بعضٌ من المصريين الذين كنت أحدهم لأشهد ما طالب به كل من مليتون وطه حسين بطريقة عملية في دولة النمسا، التي تُولِي التعليم والمعلم والتلاميذ والعملية التعليمية بكل تفاصيلها العناية الأَوْلَى في كل مجالات الحياة التي هي الأخرى لها عناية فائقة، كما وجدنا فيها كل ما نادى به عميد الأدب العربي في كتابه مستقبل الثقافة في مصر، بكل تفاصيله، من أهمية دراسة اللغة اللاتينية القديمة، على سبيل المثال، حيث لا تواصل مع الحضارات القديمة التي لا غنى عن دراستها إلا من خلال لغتها، وكان الدكتور طه حسين قد طالب بأن يدرس طلاب المدارس الثانوية قدرا كبيرا من الثقافة تؤهلهم لأن يقتحموا الحياة اقتحاما وهم مُسلَّحون بعلم كافٍ، وهو نفس ما وجدناه يمشي على قدمين في الدول المتقدمة ومنها النمسا التي أقيم بها منذ ربع قرن والتي أعمل فيها مدرسا للغة العربية لغير الناطقين بها، وهنا أدركنا كيف كان العميد سابقا لعصره، حينما سطر هذا الكتاب من ثمانين عام تقريبا.
والسؤال الذي نطرحه هنا، هل تستطيع الحكومات العربية الحالية، وتعلن أنها قررت النهوض بهذا الوطن الذي يستحق أن يكون في قلب الأمم المتحضرة، والدول المتقدمة، وأن تعلن التعليم مشروعا قوميا، حقيقية لا مجرد شعار، وهذا بكل تأكيد لن يحدث إلا أن تكون هذه " الحكومات" مؤمنة حقا بأنه لا سبيل لنهضة ذلك البلد العريق إلا من خلال التعليم.

فكل الأمم التي أرادت النهضة لجأت إليه، وكل الشعوب التي تاقت للتطور بدأت بالتعليم، وكل الحضارات التي نشدت العودة لازدهارها عملت على تطويره وعلى احترامه، فالتعليم ثم التعليم ثم التعليم هو البداية الصحيحة لأية أمة تسعى لتضع نفسها بين دول العالم المتحضر، أو تصنع لنفسها مكانة في عالم لا يعترف إلا بالقوى، ولا يحترم إلا المتطورين.

بالنظر إلى حالنا في العالم العربي عموما ومصر على وجه خاص نلحظ دون عناء حالة مزرية في عديد القطاعات: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، ونجد مستوىً متدنيًا في مختلف المجالات، ولو أردنا أن نعلم السبب وراء كل ذلك لن نتعب كثيرا في البحث، لأن السبب يكاد يعلن عن نفسه بلسان فصيح وهو رداءة المنتج التعليمي، الناتج عن رداءة العملية التعليمية، التي لها عديد المكونات يأتي على رأسها، وليس آخرها، القائم على تربية النشء والقائم على إعداد الشباب " الطلاب " لسوق العمل من ناحية ولمجتمعه من ناحية أخرى.
المدرس هو العامل الأول في العملية التعليمية، ولذلك تعامله الدول المتحضرة باحترامٍ كبير، وله مكانةٌ رفيعة في المجتمعات المتقدمة، وهذه الدول لم تصبح هكذا في يوم وليلة ولا بين عشية وضحاها، ولكنها مرت بظروف أشبه أو أسوأ مما نمر به، وكانت أيضا نظرة المجتمع للمدرسين فيها كثير من الاستهانة بل ربما وصلت للإهانة!، وكانت حالهم رثة وعانوا معاناة شديدة، وكانت بلادهم تمر بنفس الأزمات التي نمر بها، بل ربما أكثر وطأة، وكانت خزينة تلك الدول تعاني، ولم يكن في استطاعتها أن توفر لهم الحياة المادية اللائقة، ففي عهد فرانز جوزيف الأول (‏18 أغسطس 1830 – 21 نوفمبر 1916) قيصر النمسا، كان حال المدرس النمساوي، ونظرة المجتمع له من السوء بمكان، فذهبوا للقيصر يطالبونه بتحسين وضعهم، وزيادة مرتباتهم، ولم يكن في وسع القيصر النمساوي أن يخرج من خزانته المزيد، ولكنه لم يرفض طلب المدرسين في تحسين أحوالهم، فخيرهم بين أمرين: إما أن يزيد مرتباتهم - ولم يكن يستطيع ذلك بالطبع - أو يمنح المدرس لقب "بروفسور" تقديرا معنويا للدور الهام الذي يقوم به، فاختار مدرسو النمسا التقدير المعنوي بتشريفهم بلقب يضفي عليهم جلالا، حتى اللحظة الآنية، من أن تزداد دخولهم التي تحسنت كثيرا بتحسن المجتمع الذين صنعوه ... تُرَى ماذا يفعل مدرسونا لو وقفوا أمام هذا الاختيار؟!.

إنه لا مفر – إن أردناها نهضة حقيقة – من إعداد المعلم إعدادا مناسبا، ومن الاهتمام به ليصبح في رأس هرم السلم الاجتماعي، ليشعر بالفخر باهتمام أمته به، ويعطي عن حب ورغبة في أن يصبح المنتج الذي يقوم عليه منتجا رائعا، ينهض بالأمة فيفخر به.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط