الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الموسيقى بين التاريخ والإفتاء


لا يختلف اثنان على أن الموسيقى قرينة الإنسان منذ نزوله على الأرض، فمعيشته عليها جعلته يتابع بعينيه ويستمع بأذنيه لكافة الأصوات المحيطة به، دون أن يقول لنفسه هذا صوتٌ حلال وذاك صوتٌ حرام، لأن الله هو من علمه الأسماء كلها، وهذا لا مراء فيه لقوله تعالى: ﴿وعلم آدم الأسماء كلها﴾، وربما علم آدم بدوره حواء تلك الأسماء أيضًا، لتؤانسه وتشاركه الحياة بكل تفاصيلها التي تعلمها آدم.

وقد ثبت أن الإنسان يطرب بالفطرة لموسيقى الطبيعة كشدو البلابل، وتغريد العصافير، وحفيف الأشجار، وخرير الماء، وأصوات الطبيعة، فدفعه توقه الدائم لتلك الأصوات إلى محاكاتها باستخدام أصوات صناعية، فظهر الهارب الفرعوني، والطنبور النوبي، والقيثارة اليونانية، والناي، والدفوف، والطبول، والصنوج، والأبواق وغيرها؛ كما استخدم التصفيق باليد، والصفير بالفم، وأصوات الكورس كآلات موسيقية.

وتطورت الموسيقى الاصطناعية-إذا جاز التعبير- بابتكار العود، والقانون، والمنادولين، والبوزوكي، والبُزُق وغيرها؛ مرورًا بالآلات الوترية الغربية كالكمان، والتشيللو، والكونترباز، والجيتار؛ وآلات النفخ كالفلوت، والبان فلوت، والإبوا، والكلارنيت، والساكسفون، والهورن، والترومبيت وغيرها؛ إضافة إلى البيانو، ملك الأوركسترا.

وأخذت تعمل تلك الآلات على تحقيق الثبات النفسي للإنسان، ومساعدته على الهدوء والاسترخاء وإكسابه شيئًا من القدرة على إعقال الأمور نظرًا لصلاح بدنه الذي خرج من صلاح مِزاجه، عملًا بمقولة الأطباء المسلمين القدامى: «اعتلالُ البدنِ من اعتلالِ المزاج، واعتدالُ البدنِ من اعتدالِ المزاج»؛ ويكتمل إدراك الإنسان للجمال الكوني باندماج ما تسمعه الأذن مع تراه العين ويستقر في النفس.

هكذا، خرجت الموسيقى، بفعل الطبيعة، وتطورت بإرادة وألمعية الإنسان، لهدف مشروع غايته اعتدال البدن وصلاح المِزاج، وليس المجون والفجور الذي قد يسيء إلى المعازف إذا ما صاحبها.
 
وبلغ من أهمية الموسيقى أن خصص الإغريق إلهًا لها قديمًا، وهو أبوللو، الذي كان يصور دائمًا وهو ممسك بقيثارته المشهورة؛ ولم لا، وقد لعبت الموسيقى دورًا مهمًا في الطب والاستشفاء قديمًا، إضافة إلى دورها الديني والمجتمعي؛ ومن أثينا انتقل أبوللو إلى روما. 
 
لقد كانت الموسيقى-ولا تزال-توظف في الأغراض الدينية. فمناظر العازفين على جدران المعابد وعلى أوراق البردي تؤكد ارتباطها بطقوس المصريين القدماء الدينية والمجتمعية؛ وفي المعابد اليونانية والرومانية كانت الموسيقى ماثلة في كافة الطقوس؛ وفي الكنائس تصاحب الموسيقى المنشدين في كل قداس، بل يمكننا تمييز الكنائس عن طريق الألحان الكنسية. 

ولم تقف الموسيقى عند استخدام الأفراد، بل استخدمتها الجيوش عند المسير إلى الحرب، لرفع حماسة الجنود وتحفيزهم بقرع الطبول، ونفخ الأبواق، طبقًا لألحان متفق عليها؛ وهو ما يعرف الآن بالموسيقى العسكرية.
وعرفت العرب الموسيقى قديمًا، وعزفوها آنذاك على ما أُتيح لهم من المعازف، أو أتت إليهم من بلاد فارس، حيث كان يسيطر على أغلبها آلات إيقاعية كالطبول والدفوف، والمزمار أيضًا. وبعد الإسلام طور العرب الآلات والمقامات الموسيقية، بفضل زرياب وإسحق الموصلي.

لعل رحلة الإنسان مع الموسيقى تجعلنا نتساءل: وهل ثمة مشكلة مع الموسيقى؟
ليست هناك مشكلة بكل تأكيد، سوى مع أصحاب العقول المنغلقة الذين يعزفون عن القياس ويستمسكون بنصوص جامدة أو حكايات غامضة. ولعل ما دفعني لأكتب هذا هو مقطع فيديو شاهدته لبعض مشايخ العرب(ص.م.، ع.ك.)، وهم يفتون بأن الموسيقى ليست حرامًا وبأسانيد واضحة. 

وقد سررت لما سمعته منهم لكونه يشير إلى انفراجة في العقل، رغم أن فتواهم بالإجازة جاءت متأخرة نسبيًا، وأضيف إليهم: رأيكم محل تقدير من حيث إنها تؤدي إلى اعتدال المِزاج ومن ثم اعتدال البدن؛ مع مراعاة ألا تصرف الإنسان عن واجباته الشرعية.
* كاتب وأستاذ أكاديمي
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط