الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هنا المغرب.. رحلة الـ 100 ساعة داخل جوهرة أفريقيا

محررة صدى البلد نورهان
محررة صدى البلد نورهان خفاجي


 

عقارب الساعة كانت تشير إلى  الثانية عشرة ظهراً، حينما هبطت طائرة الخطوط الملكية المغربية في مطار محمد الخامس بعد نحو 6 ساعات من التحليق جواً فوق السحاب، مطويةً خلفها حضارة عمرها يزيد عن أكثر من 7 آلاف عام، لتصل بنا إلى حضارة تمتد جذورها عبر التاريخ، كل شيء كان هادئاً ومثالياً تماماً كما عُد له مسبقاً، بداية من إنهاء إجراءات مغادرتنا من مطار القاهرة الدولي حتى وصولنا الدار البيضاء، نقطة انطلاق رحلتنا السياحية التي استغرقت خمسة أيام.


 

هناك ناحية اليمين حيث منطقة استلام الحقائب داخل المطار، رجل في الخمسين من عمره قوي البنية، يقف ممسكا بلافتة ورقية وسط الزحام يرمق المارة من حوله باحثاً عن فوجه السياحي ليبدأ معه رحلته المعهودة لعدة أيام، "إبراهيم" كان اسمه. للوهلة الأولى تعتقد أنه جنوبي النشأة كما لو كان من أقصى صعيد مصر، أو ربما هو نوبي الأصل من ابتسامته الساحرة المنخرطة مع لونه الداكن، يتحدث المصرية بطلاقة شديدة كما لو كان شبراوياً ويتقن مخارج الحروف العربية كأزهري نما في صحنه الشريف.

خلف لافتته الورقية تجمعنا مصطفين لنغادر صالات المطار لبدء جولة استكشافية في مدن الشمال المغربي، التي كانت أولى محطاته "كازبلانكا" تلك المدينة التجارية الواقعة وسط غرب المملكة ذات أكبر كثافة سكانية بين المدن بنحو 7 ملايين نسمة، بمجرد أن تطأ قدمك أرضها تشعر أنك مازلت في وطنك لم تغادره أبداً، نفس الوجوه الطيبة والملامح المألوفه التي تصادفك في يومك، تشبه في سحرها الأخاذ حبيبتنا عروس المتوسط، المرح السائد في محيط الأطلسي لم يختلف كثيراً عن نظيره أمام مشهد أمواج المتوسط المتلاطمة خلف ضخور الإسكندرية.


 

على أغنام موسيقى الكناوة التراثية، أخذت الحافلة تقطع بنا الطرق الموازية للمحيط مطوية خلفها ملامحه المزيجة بين الأفريقية والأوروبية، بداية من شارع غاندي في أول المدينة مروراً بمخلفات المدينة الفرنسية وساحة الأمم المتحدة، وصولا إلى البحيرات والجبال الخضراء والصحاري ذات الكثبان الرملية بلونها البني الساحر المنتهية تلاله قبيل غابات المعمورة الأكبر مساحة في المملكة بنحو 830 ألف هكتار على طول ساحل الأطلسي.

عزيزي القارئ.. دعني أخبرك قليلاً عن موسيقى الكناوة التراثية، التي رافقتنا طوال الرحلة بألوانها المختلفة، دوى ألحانها يقع على مسامعك للمرة الأولى كصخب شديد من أصوات الطرق على الآلات المتداخلة، لكن إذا عرفت أن تلك الأصداء التي تحدثها آلة "الكمبري" تشبه دوى الضرب على أغلال الحديد المُطوق لأيدي العبيد الأفارقة الذين استطاعوا النجاة من أعمال السُخرة في حقول الأمريكان، - هكذا قال عنها مرافقنا السياحي "إبراهيم"- حينما كانت تجارة العبيد مُباحة في أفريقيا، عدد كبير من قوافل الأفارقة التي كانت تمر إلى أمريكا، كان الكثير بينهم يمرض والأخر يموت لينتهي بهم المطاف تحت تراب المغرب، أما المرضى الأحياء منهم فتماثلوا الشفاء وعاشوا وتكيفوا مع الطبيعة والحياة المغربية ونقلوا إليها تلك الموسيقي وليدة قيودهم الأسيرة، وتطورت بعد ذلك وتم مزجها بأشكال أخرى من الغناء الصوفي التي كانت تنشده منذ النشأة، وبمرور السنين خصص لها مهرجان سنوي تشهده مدينة الصويرة المغربية كل عام، يحضره الآلاف من مريدي هذا اللون الغنائي عربا كانوا أو عجما.


 

نعود إلى جولتنا في عروس الأطلسي الأفريقية "كازبلانكا" ذلك العصب الاقتصادي للمملكة المغربية، الذي يمثل منصة التواصل بين المستثمرين على مستوى الداخل والخارج، حيث تتمركز بها أكبر المصانع والأعمال التجارية والبورصة والسوق المالية، وأيضا المولات التجارية والفنادق والمنشآت العصرية، هي مدينة الأعمال التجارية الأكثر اكتظاظا بين مدن المملكة خاصة بعد التنوع المعماري الذي واجهته خلال القرن العشرين.

وأنت تمر بين شوارعها، يلفت انتباهك يمينا ويساراً مباني المؤسسات الدينية بارزه بطابعها الفريد، يكسو أسطح جميعها اللون الأخضر المأخوذ عن عمامات الأشراف والأولوياء الصالحين كدليل على السلام والتسامح، هناك على امتداد الساحل يقع مسجد الحسن الثاني بطرازه المعماري الفريد، أكبر مسجد في البلاد والثاني في أفريقيا، باحاته العائمة على سطح الأطلسي تستوعب نحو أكثر من 25 ألف مصلٍ، ومئذنته ذات الطابع الأندلسي ترتفع نحو 210 أمتار عن الأرض ما يجعلها أعلى بناية دينية في العالم، في الليل تشد انتباهك بشعاع الليزر الموجه من قمتها نحو الكعبة المشرفة لبيان اتجاه القبلة.

تلك الباحات الشاسعة التي بُنت على مساحة تقارب 9 أفدنة، لم تنشأ جدرانها لضم صفوف المُصلين فقط، لكنها مجمعا ثقافياً متكاملا، وموقعه المتميز على سطح المحيط جعل منه متنفساً لمواطني الدار البيضاء يهربون إليه خلال يومي السبت والأحد حيث تكون عطلتهم الاسبوعية، فضلاً عن كونه علماً سياحيا بارزاً في المملكة.


 

وبينما أنت تنتقل على امتداد ذلك الساحل، مترجلاً كنت أو مستقلا حافلة، يمكنك الانحدار قليلاً من أجل ارتشاف "الأتاي" المغربي الساخن الممزوجة رائحته مع أبخرة الأطلسي المتصاعدة، إذا لم تستطع فعل ذلك فلن يفوتك الكثير قد تدركه في أحد الفنادق أو البيوت التي تقيم بها، إذ لا يمكن أن تدخل بيتا مغربياً، إلا وسارعوا إلى إحضار صينية الشاي، فمن غير المقبول أن يحل بالبيت ضيف ويذهب دون أن يتناول كأس الشاي، لكن قد تجد مذاقه يختلف في الجنوب عن مذاقه في الشمال، فكل مدينة تتفنن في تحضيره بمذاقها ولونها الخاص، لكنه في النهاية لا اختلاف على أنه جزء من حياتهم اليومية.

وعلى الضفة اليسري لمصب نهر أبي رقراق بامتداد ساحل الأطلسي، توجد "الرباط"، المدينة المضيافة كما يطلقون عليها هي ثاني أكبر مدينة بالمغرب بعد الدار البيضاء أسّسها الموحدون في أواسط القرن الثاني عشر، وآوت الأندلسيين الذين لجؤوا إليها بعد طردهم من إسبانيا واستقروا فيها على موجات متلاحقة بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر، ناهيك عن تاريخ المدينة العريق، فقد أصبحت في السنوات الاخيرة مركزا لرجال الأعمال، وضمت مباني السفارات والبرلمان ومؤسسات الحكومة وكافة مباني الدولة الإدارية.

تجد الطرز المعمارية في الرباط ذات طابع ولمسة فريدة، ربما أخذت نمطاً أوربيًا قليلاً نتيجة لحياة العصرنة التي تشهدها، لكن وسط ذلك التحضر الذي تعيشه مازالت تحتفظ بمعالمها السياحية العتيقة، ومازال رونقها يجذب اهتمام كل أجنبي يمر إليها.


 

هناك في وسط المدينة تقف "صومعة جامع حسان" شامخة شاهدة على عصر دولة الموحدين والتي أسست بأمر من يعقوب المنصور سنة 593 هجرياً، وتعد من أكبر المساجد في عهده، لكن هذا المشروع الطموح توقف بعد وفاته عام 1199م، وتعرض للاندثار بسبب الزلزال الذي ضرب الرباط في عام 1755م وبقيت آثاره شاهده على العصر.

وعلى ساحة يعقوب المنصور الموحدي، في الجهة المقابلة لـ"صومعة حسان" هناك على ربوة عالية من الأرض، يقع "ضريح محمد الخامس" تجده مبنى يتآلف من طابقين ذوي جوانب بيضاء وقمة خضراء، فور أن تعتلي درجاته الأولى يقابلك دوى صوت ملائكي يرتل في سكون من آيات الله ما تطيب له النفس وترضى، إنه قارئ الضريح الخاص تراه من الطابق العلوي يتخذ جانباً من الغرفة التي يستقر بها ضريح الملك يجلس بالساعات يرتل في حضرته دون الانشغال بعدسات الزائرين التي تتسابق في تسجيل ذلك المشهد المهيب، متناسية تماماً الطرز المعمارية والنحتية الفريدة على جدرانه.


 

وفي الضفة الجنوبية من نهر أبي رقراق، وسط حي سكني بالرباط تقع "قصبة الوداية"، تلك القلعة المحصنة التي شيدها المرابطون لمحاربة قبائل برغواطية، تقف بسورها وبابها الأثري الكبير يرويان قصة إبداع الفن المعماري الموحدي، التي ازدادت أهميتها في عهدهم وجعلوا منها رباطاً على مصب النهر وأطلقوا عليها اسم المهدية، وتلك الفترة أعقبها بعد ذلك عدة إصلاحات في عهد العلويين خلال القرن الثامن عشر.

داخل هذه القصبة تتفرع أزقة ضيقة مقتبسة من اللؤلؤة المغربية الزرقاء "شيفشاون"، تحسبه عرضاً تمهيدياً مُصغراً لتلك المدينة الساحرة الواقعة في أقصى شمال المغرب، نفس التضاريس الصعبة والانحدارات المفاجئة والانكسارات الحادة والدكاكين الصغيرة المكتظة بالمعروضات الرمزية للطرز المغربية، ويزيدها بهاء ذلك النهر المطلة على شاطئه، فيمكنك الاستمتاع بمشهد في أوان العصاري وأنت تناول كأس "الأتاي".


 

لم تنتهِ رحلتنا عند كأس الشاي أمام ذلك النهر المسمى بـ"سلا" الذي يصب في الأطلسي، إذ تتبعنا المحيط نستقل حافلتنا المألوفة منذ أربعة أيام، الآن قد أصبحنا أكثر تقارباً وصارت ضحكاتنا تتعالى وحديثنا يتبادل طوال الطريق، حتى أننا تداعبنا قليلاً وأقدم العديد من أفراد فوجنا السياحي على الغناء كرهاً كعقاب لتأخره في اللحاق بالأخرين، الحقيقة لم يكن بيننا من يُحسن الطرب لكن لا بأس فقد سجلنا ذكريات سعيدة تستحق السرد.

بعد قرابة ساعة ونصف من قطع الطرق الجبلية، بدأت ملامح "طنجة" تظهر مع المسطحات المائية، حيث أنك أمام مشهداً فاصلا في الرحلة عند نقطة التقاء البحر المتوسط مع المحيط الأطلسي من جهة وبين القارة الأوروبية والأفريقية من جهة أخرى، تلك هي جنة الجواسيس والمدينة اللغز كما قال عنها مرافقنا السياحي "إبراهيم"، إن ظهرها لأفريقيا ووجهها لأوروبا ومن الجانب محيط والأخر بحر.


 

هناك على مسافة ثلاثين مترا في بطن الجبل، كهف عميق تتكسر عليه أمواج البحر، وينفذ إليه الزوار في عتمة ما تلبث حتى تنجلي عند فتحة النور، هي نافذة تحت الجبل تطل على مياه الأطلسي وترسم شكلاً أشبه ما تكون بخريطة إفريقيا.. إنها "مغارة هيركل" أبرز معالم المدينة وأكبر مغارات القارة السمراء الواقعة قرب بوغاز جبل طارق، حيث منطقة التقاء المحيط مع البحر، نسج حولها عشرات الأساطير الإغريقية أبرزهم أنها تروي قصة انفصال إفريقيا عن أوروبا حينما ضرب هيركل الجبل فانشق لتختلط مياه الأطلسي الزرقاء مع المحيط الأخضر، أمام ذلك المشهد يقف الزوار لالتقاط الصور التذكارية.


 

ومرورا بساحل المتوسط قرب منطقة الريف الكبير، تظهر أحياء قديمة أندلسية الطابع جميع بناياتها موحدة باللون الأبيض، إنها "تطوان" الحمامة البيضاء كما يطلقون عليها، تجدها واقفة بين مرتفعات جبل درسة تحكي تاريخ الحضارة الأندلسية، بمعالم أحيائها وأزقتها الضيفة المتفرعة من ساحة واسعة بمحيط بالقصر الملكي تدهشك من بهائها في الثوب الأبيض التي تتحلى به كافة جدران المدينة.

وإذا تقدمت لأمتار قليلة، لقطع تلك المدينة بين الحواري والأزقة ستجد سوقاً عشوائياً قديماً تلمس فيه معنى المدينة بشوارعها وطابعها ومأكولاتها المألوفة، بداية من "جبن الماعز" إلى "المسمن" المغربي الشهير.


 

مع نهاية تلك الممرات، طريق جديد بسمات جبلية ذات تضاريس صعبة وانحدارات مفاجئة وأودية منخفضة وانكسارات حادة، عناء الطريق يستحق من أجل ختام مسك لرحلتنا، فأخذت الحافلة تتقدم بعيداً عن صخب كازبلانكا والرباط وصوت "سعيدة فكري" يصدح في الأرجاء تحكي قصة المدينة، وتردد "يا جبال الريف شوفي قدامك.. طريق النور مفتوحة لقدامك.. يروح الليل ويطلع صباحك.. يزول الشوك من ورد العرسان.. ياجبال الريف انا شفتك تبكي ودموعك ذايقة المرارة".. خلف تلك التأوهات التي تشدو بها ابنة الأمازيغ تتصاعد ألسنة الدخان الرمادية من أعلى قمم جبال الريف على طول الطريق، ليصل بك في نهاية مطافه إلى اللؤلؤة الزرقاء "شفشاون".

"إذا أخبرتك أنه لا كلمات توفي وصف لؤلؤة المغرب الزرقاء تحسبني أبالغ، لكن التعبير الأبلغ هو أن تقول عنها بإنها قطعة من السماء سقطت على الأرض، إذا كانت المدن الأوروبية تسحرك بوهجها، فإن للطبيعة الأفريقية سحرها الآخذ للروح والعين"، هنا يجب أن تركض لا مكان للجلوس في تلك المدينة النائمة على سفوح جبال الريف، فكل شئياً من حولك أزرق بتدرجات لونية مختلفة البيوت والدكاكين وجذوع الشجر، الصناعات اليدوية للسكان الأصل الريفيين تزين جدران الحواري والأزقة الضيقة، المارة من حولك يتباربون في التقاط الصور، فمنهم من يختلس بعدسته مشهداً ومنهم من يقف حائراً أمام ذلك السحر الأفريقي، المنتهي ممراته أسفل سفح جبلي عند ينبوع الماء المزود للمدينة.