الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مراد هوفمان.. الدبلوماسي الداعية


رحلة حياتية عظيمة، ما بين مولده في السادس من يوليو العام 1931 "بأشافنبورغ"، ووفاته في الثالث عشر من يناير العام الجارى "ببون"، حفلت بسيرة ومسيرة دينية وفكرية متباينة، انتهت بالهداية الربانية التي أرادها له الحق -عز وجل-، بعد أن غاص في الأديان بحثا ومقارنة، ليهتدى الى شاطئ النجاة الذى يعصمه من الخلل والذلل الفكرى والمعتقدى.

عن المفكر الإسلامى والمحامي والدبلوماسي والكاتب والباحث الألماني مراد ويلفريد هوفمان أعنى ما سبق، ففي السادس من يوليو العام 1931 ولد مراد هوفمان لعائلة كاثوليكية، ووفقا للموسوعة الحرة -ويكيبيديا- فقد انتمي إلى عصبة محظورة مناهضة للنازية في ذات الوقت، وبدأ بدراسة القانون بعد حصوله على شهادة البكالوريا في ميونخ، وتخرج فى هارفارد، وحصل بعدها على الدكتوراه في القانون، كان متقنا للغات الألمانية، والإنجليزية، والفرنسية، وعمل خبيرا في مجال الدفاع النووي في وزارة الخارجية الألمانية، ثم مديرا لقسم المعلومات في حلف الناتو في بروكسل من عام 1983 حتى 1987م، ثم سفيرا لألمانيا في الجزائر من 1987 حتى 1990م، ثم سفيرا في المغرب من 1990م حتى 1994م، وجاء عمله منذ الخمسينات في سفارة ألمانيا الاتحادية في الجزائر، ليجعله شاهدا عن قرب للثورة الجزائرية التي أثارت اهتمامه الشديد ودفعته للتأمل، فصاحب العديد من الكتب التي تتناول مستقبل الإسلام في إطار الحضارة الغربية وأوروبا.

في عام 1980 اعتنق هوفمان الإسلام السني في بون، وكان إسلامه موضع جدل بسبب منصبه الرّفيع في الحكومة الألمانية، حيث يذكر أنّ من أسباب تحوله إلى الإسلام: ما شاهده في حرب الاستقلال الجزائرية، وولعه بالفن الإسلامي، إضافة إلى التناقضات الكثيرة التي تواجهه في العقيدة المسيحية.

أثمرت حياة المفكر الألمانى مراد هوفمان الفكرية والدعوية العديد من الثمار اليانعة، من المؤلفات، الذي خاطب به المجتمعات الغربية، معرفا ومدافعا عن الإسلام، بموضوعية مثلى، كما خاطب ببعضها جموع المسلمين، ليردهم إلى دينهم مردا عقلانيا، ومن أهم مؤلفاته: "الإسلام كبديل"، الذي أحدث ضجة كبيرة في ألمانيا، "الإسلام في الألفية الثالثة ديانةٌ في صعود"، "خواء الذات والأدمغة المستعمرة"، "يوميات ألماني مسلم"، و"رحلة إلى مكة"، ترجمت أغلبها إلى العربية والإنجليزية، واتسمت كتاباته بالموضوعية والوضوح والعمق ، وفهم الإسلام والغرب، فأبدع في حسن عرض الإسلام لبنى جلدته الأوروبيين، كما نجح في إظهار القيم المشتركة بين الإسلام كدين عالمي والحضارات الأخرى، لكنه للأسف لم يُقرأ له بالقدر الذي يتناسب مع نتاجه الفكري.

يذكر الدكتور خالد حنفي في مقال له بعنوان "مراد هوفمان.. لمحاتٌ من حياته وأضواءٌ على أفكاره": أنه أثناء عمل هوفمان بالجزائر في عامي 1961/1962م، عايش فترة من حرب استمرت ثماني سنوات بين قوات الاحتلال الفرنسي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، ولاحظ مدى تحمل الجزائريين لآلامهم، والتزامهم بالصوم في شهر رمضان، ويقينهم بأنهم سينتصرون، وسلوكهم الإنساني وسط ما يعانون من آلام، وأن الباعث لهم في كل ذلك هو الإسلام، وتيقن هوفمان من إنسانية الجزائريين المطلقة عندما تعرضت زوجته للإجهاض وواجهت الموت بسبب عدم تمكن سيارة الإسعاف من الوصول إليها لظروف الحرب، فاتجه هوفمان بها إلى عيادة خاصة، وأنقذ حياتها سائقه الجزائري بالتبرع بدمه لامرأة أجنبية غير مسلمة.

وهذا يؤكد على تلك الحقيقة القرآنية: "قل إن الهدى هدى الله"؛ فظاهريًا مشهد المقاومة الجزائرية للمستعمر لا يوحي بشيء يدفع للتفكير في الإيمان، لكنه وقع مع هوفمان، ما يعني أن المسلمين في مجموعهم لو أرادوا الدعوة إلى الإسلام فما عليهم إلا التمسك به وتجسيده في سلوكهم وأخلاقهم، تمامًا كما قال هوفمان عندما سئل: كيف ندعو للإسلام؟ قال: عندما نمارسه.

فبدأ هوفمان يقرأ القرآن بتمعن وتدبر فتأثر به، لكن آية في القرآن أذهلته وقادته إلى الإيمان الحق، وهي قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)} [الأنعام: 164].

كان هوفمان يقول عن نفسه إنه قريب من الإسلام بأفكاره قبل إشهار إسلامه والنطق بالشهادتين، فكان مسلما من الناحية الفكرية الذهنية لا العملية التطبيقية، ثم انتقل بعدها إلى الالتزام السلوكي والأخلاقي بتعاليم الإسلام، ومن أوضح مظاهر تحوله وتمسكه بالإسلام توقفه عن شرب الخمر وأكل الخنزير.

تكمن أهمية قراءة فكر مراد هوفمان اليوم في أنه كدبلوماسي وفيلسوف ألماني، وجد الطريق فسلكه، بينما وجد غيره من المسلمين الأصليين الطريق فتركوه، إذ تنبأ الرجل بشيوع ظواهر الإلحاد وترك الدين، لكنه قدم أجوبة متماسكة لأسئلتهم، وتحليلا منطقيا للظاهرة، ولم يقلل هذا من تفاؤله واستبشاره الدائم في كتاباته على ظهور الإسلام وانتشاره.

ومما تفرد به هوفمان أنه لم ينعزل بعد إسلامه، ولم يقرر البقاء في تصوف وروحانية يحقق بها الخلاص الفردي لنفسه والإشباع الروحي لقلبه الظامئ والمرهق من الحضارة المادية التي لا تقيم وزنا للقلب والروح، ولكنه قرر أن يكتب وأن يجاهد بفكره وقلمه وأن ينير الطريق للناس، ورغم شدة الهجوم عليه بعد إسلامه وقبيل صدور كتابه الشهير الإسلام كبديل، والمطالبة بإقالته من عمله بالخارجية الألمانية، والإفتراء عليه بقول ما لم يقل.

ويؤكد الدكتور خالد حنفي أن من محاسن فكر هوفمان أن التفاؤل والاستبشار لا ينفك عنه في أغلب كتبه، رغم كثرة المحبطات وتضاعف عوامل الإحباط والفتور، ولعل أسباب الفتور واليأس قد تضاعفت اليوم، بل إن الحالة النفسية المحبطة للشباب تمظهرت في أحايين كثيرة في الخروج من الدين وعدم الثبات عليه، لهذا فإن قراءة كتب هوفمان لا ترتقي بك فكريا، أو تفتح لك نافذة على الفكر الغربي فحسب، وإنما تعطيك جرعة هائلة من التفاؤل والاستشبار بمستقبل الإسلام المبني على معطيات علمية وقراءة للحضارة الغربية من الداخل، فتفاؤله لا يقوم على دغدغة العواطف والمشاعر، أو القراءة التعسفية لنصوص ظهور الإسلام في آخر الزمان، وإنما يقوم على رؤية بصيرة مقيدة بالعمل الراشد المستدام.

ففي كتابه "الإسلام كبديل" يتناول مراد هوفمان المفاهيم الإسلامية الخلافية والمثيرة للجدل فى عشرين فصلا، دعوة للإسلام على أساس علمى، مؤيدة بالتاريخ والحاضر، مشددا على أنه عندما يتنافس العالم الغربى والشيوعية على قيادة العالم، كان يمكن اعتبار الإسلام نظاما ثالثا بينهما، ولكنه اليوم البديل للنظام الغربى.

وفى كتابه "الإسلام فى الألفية الثالثة" يطرح مراد هوفمان المفكر والسياسى الألمانى الذى عاش خمسين عامًا كاثوليكيًا وعشرين عامًا مسلما، الإسلام فى الألفية الثالثة، تصورا مغايرا لمن رأوا أن الإسلام سيتهاوى أمام صعود الليبرالية المتوحشة، طارحا عدة قضايا للنقاش، مجيبا عن بعضها، مستفيدا من خبرات مسلمى ألمانيا وأوروبا وأمريكا، تاركا بعضها مفتوحا للجدل العام، منتقدا الموقف الأوروبى المتعصب تجاه المسلمين بوصفهم جسما غريبا فى حضارة الغرب، عارضا بعض الاستبيانات التى أجريت هناك، والتى بينت أن الأوروبيين ينقسمون فى نظرتهم للإسلام بين كونه خطرا على حضارة أوروبا أم لا، لكنه وإن حمّل الأوروبيين شطرا من المسئولية، إلا أنه ينفى عن المسلمين شطرها الآخر.

وفى كتابه "يوميات ألمانى مسلم"، يوضح الدكتور هوفمان من خلال مسيرته، الأسباب التى أوصلته للإيمان بدين الله الحنيف، فهذا الكتاب ليس مجرد يوميات أو خواطر، وإنما تسجيل للمواجهات التى قادته للإسلام، وزادته إيمانًا به، ويشير لقدر كبير من الاهتمام إلى جانب الحرج الغربى، لدرجة أن بعض المسئولين كانوا أحيانا يخفون حقيقة إسلامه.

وهكذا عاش مراد هوفمان رجلا مدافعا عن دينه، مميطا عنه لثام كل شبهة يثيرونها حوله أعداؤه، مؤديا فرائضه باقتناع وخشوع تام لفضل ربه عليه باتباعه، فاعتمر منذ عام 1982 سبع مرات، وأدى فريضة الحج مرتين، وألقى منذ عام 1994 إلى 2008 حوالي 350 محاضرة حول مواضيع إسلامية في 31 دولة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة والعالم الإسلامي، كما كان عضوا في مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي في عمان، ومستشارا وعضوا فخريا في المجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا، وعضوًا في المجلس الشرعي لمصرف البوسنة الدولي في سراييفو.

واستحق نيل الكثير من التكريم، إذ في عام 1984 نال وسام استحقاق جمهورية ألمانيا الاتحادية برتبة فارس، واختير في عام 2008 من قراء المجلة الإسلامية كأهم شخصية مسلمة في ألمانيا، كما أعلنه محمد بن راشد آل مكتوم في عام 2009 "شخصية العام الإسلامية" كجزء من جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، وقلده الملك عبد الله الثاني بن الحسين في عام 2010 وسام الحرية من الدرجة الأولى، وهو أعلى وسام يُمنح للأجانب، كما تم إدراجه عام 2017 في قائمة أهم 500 شخصية مسلمة في العالم من قبل مركز الأمير الوليد بن طلال للتفاهم الإسلامي المسيحي بجامعة جورج تاون ومركز الدراسات الاستراتيجية الإسلامية في الأردن.

رحم الله المفكر الإسلامى الدكتور مراد هوفمان رحمة واسعة، أسكنه بها الفردوس الأعلى جزاء ما قدم لدينه ودعوته.


المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط