الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هرتلة صلاح جاهين!


ذات مرة شعرت أن صلاح جاهين كأنه يبكي في أغنية "خلي بالك من زوزو" ولما التقيت شخصية كانت قريبة منه ولما أبحت له بشعورى السابق، إذا به يذهل ويقول: "أكيد أنت اندمجت مع شعر جاهين وفهمت شخصيته لأنه بعد النكسة كان بيعذب نفسه لأنه كان محمل نفسه جزء من مسئولية الهزيمة".

فلم يستفزنى وصف أغانى صلاح جاهين التى كتبها لسعاد حسنى في فيلمي "خلي بالك من زوزو" و"أميرة حبي أنا" بأنها تافهة ولا تتناسب مع اسم وقيمة وعمق صلاح جاهين.

فقد قرأت بوست للزميل والصديق الصحفي علاء الجمل بهذا المعنى بأنه في أغنية الدنيا ربيع "كان بيهرتل" ومع عشقى لجاهين لم استفز، بل حزنت وحزنى كان على صلاح جاهين ليس بسبب ما سمعته مرارا من جانب كثيرين ما بين حانق ومحق، عن تفاهة الكلمات، بل لما مر به الشاعر الفيلسوف الذي ظلم نفسه من أزمة شديدة عقب هزيمة 67 بعد أن أشبعنا أملا وعزة.

فإذا بالصدمة فوق الاحتمال وظن جاهين أنه ساهم في خداع المصريين بأغانيه وقصائده مع تجربة جمال عبد الناصر.

فجأة اعتبر جاهين أن كل ما كتبه كان خدعة دون أن يدري، فإذا بالقاصمة تنزل على مصر مع فجر 5 يونيو 1967 لتحطم الحلم قبل الواقع.

فهل خدع جاهين المصريين؟!
أبدا والله لم يحدث، فلم يكن تملك الفلاح المصري لأرضه لأول مره في تاريخه بالوهم.

ولا إزاحة أكبر إمبراطورية في التاريخ إلى الصف الثانى بعد حرب 56 برغم أن بريطانيا انتصرت فيها عسكريا مع حليفتيها، إلا أنه الانتصار الذي أذلها في فارقة تاريخية لم تحدث من قبل على مر الزمان إلا على أرض مصر وبريطانيا لم تنس - حتى الآن- هذه الصفعة!.

لم يكن السد العالي خدعة ولا التصنيع ولا الوحدة الصحية ولا المدرسة ولا كشك الكهرباء في الريف ولا ابن الفلاح الذي دخل كليات ولاد الذوات وتساوى بابن الوزير بل فاقه وصار مديره ورئيسه!.

لكن مرارة 67 محت كل حلاوة سبقتها ولو إلى حين، فقد كشفت مرارة الهزيمة ما أخفته نشوة الإنجاز من فساد ومحسوبية وقهر وفجور وأشياء أخرى خبيثة كانت تسري في الأعماق.. كل هذا صحيح وكان من أسباب النكسة ولا يجادل فيه مجادل.

لكنا أردنا من جمال عبد الناصر أن يمنع الفساد ويقضى على المحسوبية ويحقق العدل.. باختصار أردنا أن يكون بيده مقاليد كل شيء فلا تحدث كبيرة ولا صغيرة إلا وقد أحاط بها.

أستغفر الله العظيم.. أردناه إلها.. ولما عجز عن أن يكون الإله، جعلناه الشيطان!.

من فضلك أعط لى مثالا من مكنونات الزمان، خلا من الفساد وأجمع عليه الناس.. تجربة.. اثنتان.. ثلاث؟!... أنت واهم يا عزيزى لو اعتقدت هذا، فالحياة على الأرض صراع لا ينتهى.. وأنت لم تحط علما بأى من أمثلتك.
ولكن جاهين بقلب شاعر لا يفكر بهذه الواقعية المريرة فرأى بعينيه هزيمة منكرة تجرع مرارتها مرتين، مرة كضحية من ضحاياها ومرة كمساهم فيها أو هكذا ظن.

"كنا بنغنى للناس.. أترينا بنغنى عليهم"

وجاهين عاقب نفسه على معا بهذا الاعتقاد وعاقبنا معه، بأن قرر أن يجلد نفسه بالتفاهة في "زوزو النوزو كونوزو" "وبوسة ونغمض وياللا".

حتى رفيق كفاحه المبدع البديع نجيب سرور ذهب مغاضبا بعد أن سمع أغنية بمبي، ليقف تحت منزله ويصرخ معترضا "بمبي يا صلاح.. بمبي؟!".

"لا حظ كيف نسي الناس إبداع سرور فيما بعد والذي أهدره بنفسه في نوبة جنون بائس يائس في قصائده المسجلة وفيها سباب مقذع وبذي موجه في الأساس إلى مصر".

لكن حتى جاهين لما ألقى بنفسه في حضن التسطح وسرور لما خاض إلى أذنيه في مستنقع البذاءة، فإن كانا تخليا عن إبداعهما، إلا أن هذا الإبداع لم يتخل عنهما.

فهل ارتبط الإبداع فقط بالجدية والمارشات العسكرية؟!

ولماذا لا يقتحم المبدعون عرين التفاهة، فيروحون عن الناس ما علق بقلوبهم من آثار الجد؟!.

يا صديقي إن القلوب إذا كلت عميت

فهذا نوع من الترويح المطلوب بل والواجب، فالاستسلام للجدية المطلقة كالتسليم للأحزان المطلقة. ولا يمكن أن يختم الخلود على أوراق التفاهة ولا الهرتلة، إلا إذا وجد فيها عمقا وأحاسيس لا يدركها إلا المبدعون ولعله اختبار الفن الحقيقي.

لا تنكر ولا أنكر استمتاعك ولا استمتاعي بصوت السندريلا في الأغنيتين ولا تنس كذلك صوت السندريلا الذبيح الذي أسبغ على مرحها روحا صارت بها مثالا للشقاوة.. ولاحظ كذلك ما في نحت اللهجة العامية للفظ "شقاوة" بكل ما يحمله من معانى المرح والألم بخليط عجيب هو سر خلطة اللهجة العامية وعبقريتها حتى فيما نظنه سطحيته وتفاهة وهرتلة!.

فتألم جاهين وقرر أن يهرتل ولكن الهرتلة عندما تكون مقصودة، فلا يمكن أن يكون قاصدها تافها، وصانع التفاهة لا يمكن أن يكون تافها، فهناك فرق بين هرتلة التافه وهرتلة العبقرى!.

التافه يذوب في الأحداث وننساه ولن يبقى إلا المعنى العميق ولو حسبناه مجرد هرتلة.. ولكن لماذا بقى في ذاكرتنا ووعينا ولماذا نستمتع به؟!.

عاشت بيننا زوزو لأنها بالفعل كلام هنعوزو.. عاشت بصوت السندريلا وموسيقى سيد مكاوى وكلمات جاهين، تماما كما عاشت بمبي بألحان كمال الطويل!.

هذا الثلاثى هنا أو هناك، عندما اجتمعوا ليهرتلوا، أسبغوا عبقريتهم على الهرتلة فعاشت نرددها حتى الآن.
فاسمع غناها وافهم لغاها وعيش ياخي واستمتع ولو للحظة بحياة لونها بمبى!.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط