الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عالقون بين السماء والأرض!


ربما لم يقف الكثيرون عند فلسفة الرواية العبقرية التي كتبها أديبنا العالمي نجيب محفوظ منذ ما يقرب من ستة عقود-وقد أصبحت فيلمًا سينمائيًا عام 1959م-والتي تصور حقيقة الإنسان إذا ما أصبح معلقًا بين السماء والأرض، فجاءت تسمية الرواية عبقرية ومعبرة. فتلك الثلة التي شاء القدر أن يَعلق بها المصعد بعد انقطاع التيار الكهربائي لم تكن تعلم مصيرها الدنيوي، هل ستصعد أرواحهم إلى السماء أم سيعودون إلى الأرض البائسة التي خرجوا منها، وقد تغيروا تمامًا وأمتلأت نفوسهم بالأمل في غد يضيء أركان حيواتهم المظلمة؟

تذكرت هذه الرواية للإرتباط الوثيق بين أحداثها وبين ما نعيشه زمن  الكورونا، فقد أصبح العالم معلقًا الآن بين السماء والأرض، فكل يوم يهبط عزرائيل إلى الأرض ليعود بحصيلته إلى السماء فيسلم الأرواح إلى بارئها، ومنهم من يتركه على الأرض لحينٍ حتى يتعظ ويسترد رشده، ويعيش حياته بمبدأ تعلمناه صغارًا يقول: رأس الحكمة مخافة الله.

تذكرت العالقين في المصعد في رواية بين السماء والأرض، فشخصية اللص عندما أدرك أنه هالكٌ لا محالة قرر أن يستثمر الفرصة التي منحها له الله بأنه لا يزال على قيد الحياة، لا لشيء إلا لأنه رأى الموت أمام عينيه، عندما توفي أحد العالقين في المصعد، ولم يستطع أيًا من ركابه أن يَحول دون صعود روحه إلى بارئها، ولم تبدو في الأفق أية إشارة إلى أنهم سيعودون إلى الأرض، فقرر اللص أن يتوب إلى الله، وأعاد كافة المسروقات إلى أصحابها.

وهذا عالق آخر كان ممن يعشقون النساء ويسير خلفهم في شوارع القاهرة، يلاطف هذه ويواعد تلك، قرر أيضًا التوبة والرجوع عن مسلكه وألا يعاود الحرام ثانية، بعد أن شغر فاهه من هول منظر الجثة الممددة على أرضية المصعد.

أما صاحب الجثة، فقد قرر قبل وفاتة أن يعترف لزوجته بما فعل في لحظة ضعف مر بها، حيث تزوج عليها دون أن يخبرها. غير أن الحب والوفاء للزوجة الأولى-أم أبنائه- وخوفه من لقاء ربه وقد حجب الحقيقة عن رفيقة دربه، كان أقوى من نزواته فاعترف لها، طالبًا منها العفو والسماح، ليأتي صوت الزوجة الوفية وهي تنتحب سائلة الله أن يرده إليها سالمًا.

ونشهد أحد الخدم ممن علق بهم المصعد، لم يأبه بالموت، بل كان كل ما يدور بخلده أن يصل بالسلامة كي يسلم الأمانة التي يحملها إلى أصحابها، وكانت عبارة عن صينية البطاطس وعليها الديك الرومي، الذي أخذ أحد العالقين ينبش فيه مستغلًا اضطراب الموقف.

وبينما تصعد روح الزوج المعترف إلى السماء ويتمدد جسده على الأرض، تعود روحًا أخرى إلى الأرض بميلاد طفل جديد داخل ذات المصعد...ويا له من منظر يدعو إلى التأمل في الحياة، هذا يرحل وذاك يأتي، وكل منهما يجهل مصيره!

ويا له من مشهد عظيم، حين يأتي الفرج بعد الشدة! 

فما أن زالت العسرة، وعاد العالقون إلى الأرض، أدركوا أنه لا يزال في العمر بقية، فعادوا إلى سيرتهم الأولى، لتتأكد الآية القرآنية (إن الإنسان لربه لكنود)، وتناسى كل منهم توبته القريبة العهد، وأخذ كل منهم يسير في طريقه الذي عَهِده، مستقيمًا كان أم معوجًا، حلالًا رزقه فيه أم حرامًا، منافقًا كان أم صادقًا؛ ليظل يلهث في الحياة الدنيا وراء ملذاته، غير مكترث بما سيكتبه الملكان في صحيفته. ولا يسأل نفسه: هل سيأتي يوم الواقعة مستبشرًا، راضيًا، أم خائبًا أسود الوجه؟ 

لا يزال الله يختبرنا بمخلوق أقوى من أن نمسك به، وقد أصبحنا عالقين الآن بين السماء والأرض، لا ندري من سيتقدم الآخر نحو السماء ومن سيظل على الأرض؛ فهل سنُقبل على التوبة؟


المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط