الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إبراهيم عطيان يكتب: موسم الكرز

صدى البلد

ولما سكنتُ إلى فراشي كان الليل هادئًا، لكن قلبي مازال مشغولًا بها والرأس يضج بالفوضى، حتى سمعت صوتًا خافتًا يحرك زجاج نافذتي، فظننته رَشًَّا خفيفًا من المطر، ولأن الجو كان شديد البرودة التحفت بمعطف ثقيلٍ ثم فتحت الزجاج على استحياءٍ؛ خوفًا من البرد، فوجدتها خلف النافذة تدق برفق شديد كأنها تخشى على يدها الناعمة لمس الزجاج البارد، كانت الفتاة بالكاد تحرك يدها، لا أدري أهو ترددٌّ أم كان ذلك خجلًا، لكن ذلك لم يكن مهمًا بالنسبة لي؛ وإنما الأهميّة كانت تكمن في عودتها مرة أخرى بعد غياب طال كثيرًا، ولما رأيتها شعرت بدفءٍ شديدٍ رغم سقوط المعطف من أعلى كتفي على الأرض، وأيقنتُ أنها فرصةً ذهبيةً كي نستعيد الوصل من جديد طالما أن الودَّ بيننا مازل محفوظًا، والحنين باقٍ لم ينقطع، ولما كان للجمال عنوان هي أول حروفة دق الفؤاد لها حبًا، وصرخ الهوى سرًا عندما بدأت حديثها وأظهرت اهتمامًا كنت اتوقعه بشأني.

وقبل أن تنصرف أهدتني أجمل بسمة، ثم أغدقت عليَّ بكم هائل من حبات الكرز، لا أدري أين كانت تخفيه، ومن أين أتت به في فصل الشتاء.

ولما كان هذا الجود والعطاء الوفير أمرًا ملفتًا، خشيت أن تكون تلك العطية هي كل ما لديها، ثم تتبعها بشح في المدد، سألتها الترشيد حتى يدوم العطاء.

عملًا بمبدأ قليل دائم خير من كثير منقطع فقلت لها عن طيب نفسٍ: هلا ادخرتيه عندك وأعطيتيني كل يوم واحدة؟ 

فقالت: لك عندي مخزون كبير لن ينفد، وإن أردت المزيد لزدناك.

كانت تلك هي اللحظات الأولى التي أتعرف فيها على المعنى الحقيقي للسعادة، وبل وهي المرة الأصدق التي أتذوق فيها للحب طعمًا،

ومع مرور الوقت تعددت اللقاءات بيننا، وكثرت الأحاديث حتى شعُرتُ بأن فترة الجمود والبعد التي عشناها سويًا قبل عامين ونصف العام تقريبًا رغم قسوتها قد غيرت فينا أشياء كثيرة للأفضل، وعلَّمتنا كيف نشعر بقيمة الحب، وكيف ننظر بعيدًا نحو مستقبل أفضل، وكيف نعيش السعادة في وقتها متمسكين بالأمل.

تلك القيود التي زالت، والحواجز الصلبة التي حطَّمتها فتاة الكرز عندما دق صوتها الحنون في قلبي قبل أُذني، دفعتني إلى هذا الشعور الرائع، وصارت الحياة في عيني أكثر جمالًا لمَّا نظرتُ في عينها الجميلة، وكلَّما سمعت صوتها ونظرت في عينها تجدد حبي للحياة، وازداد تمسكي بها طالما كنت بالقرب منها.

باختصار: معها الحياة صارت على الأرض درجةً من درجات الجنة، وصورتها أخر شيء كنت أغمض عليه عيني، وأول شيء أفتحها عليه، ولأن الحديث معها كان أكثر متعة، وأشد قوةٍ من سلطان النوم، تبدلت المناصب والرتب، وخلع النوم عباءة السلطان وصار جنديًا يحمي رغبتنا في السهر والثرثرة، فقد كانت الرغبة في البقاء معًا تمنعنا عن النوم، وتكررت الأحاديث الليلية وأصبح نور الفجر أكبر شاهدٍ على طول المدة وكثرة الثرثرة والناس نيام، لكن ذلك لا يمنع أبدًا أن نستأنف الحديث نهارًا؛ للاطمئنان، أو مناقشة ما دار ليلًا، فمواصلة الحديث صار أمرًا ملحًا لا يمكن الاستغناء عنه.

وذات نهارٍ عندما كنَّا نستعيد ذكريات الليلة الماضية رأيتها تلتفت من حولها، ثم استعدَّت للمغادرة دون أن تمدَّني كعادتها ببعض من حبات الكرز، وقبل أن تذهب قالت:
للحديث بقية عندما أعود من المتجر،
لكن الحديث مازال معلقًا منذ عدة أشهر!
فهل يكتمل الحديث مستقبلًا، أم ينتهي عند هذا اليوم موسم الكرز؟
سؤال ملحُّ رجوتُ الله أن يكون نصفه الأول إجابة عنه.
ولمَّا كان الرجاء مقترنًا بالجهد والكدَّ، ظللت أبحث عنها في كل مكان، أما التمني فلم يكن أبدًا ضمن خياراتي لهذا المطلب المُلح؛ لأنه عادة يقترن بالكسل وقلة الحيلة، ولم أكن في السابق كسولًا في الوصول إليها أو عديم الحيلة، فكيف يكون لي ذلك الآن بعدما أدركتُها؟!
بل إنه من العقل ودواعي الأمانة أن أُقرَّ وأعترف بأن قلة الحيلة، والتثاقُل أو التراخي في منتصف الطريق، أبشع أشكال الغباء؛ فهو يُفقد صاحبه الفرصة في تحقيق النجاح ومواصلة التقدم، ومضيعة لما بذله من جهد سابق، حتى التستُّر خلف شعار الرضا بالنصيب لم يكن مقبولًا، فما هو إلاَّ شكل آخر من أشكال الخنوع والاستسلام قد سكبوا عليه مراءً شيئًا من الصبغة الدينية لإخفاء فشلهم واستكانتهم، وعملية تجميل تبدو ناجحة لوجهٍ قبيح من أوجه اللامبلاة.

ولمَّا كنتُ أمينًا عاقلًا، أخذت على عاتقي مهمة البحث عنها في كل مكان حتى أجدها أو تعود هي، فتجدني أتجول في الشوارع، والمقاهي والمتاجر، حتى الحانات، أفتِّشُ عنها بين الناس في كل الدروب والطرقات، فقد آمنتُ بأن المستحيل سيكون ممكنًا متى كانت الرغبة أقوى.
لقد أشتقت إليها كثيرًا، لحضنها الدافئ، وصوتها العذب الحنون.
لضحكتها الصاخبة وكلماتها الرقيقة.
لقد جعلتني فتاة الكرز أبدو للناس غريب الأطوار، يهيم في ليلٍ طويلٍ بالساعات، ليل يعظِّمُ أحزان الغرباء، لا يعرف الرحمة، فخرجت من بيتي أطاردها وأمشِّط الطرقات تحت وقع المطر ، وبين أضواء السيارات.
أبحث عن وجه هو بالنسبة لي كل الأوجه، عن صوتٍ هو وكل  الأصوات.
ولما كانت محاولاتي في كل مرةٍ تمرُّ خاسرةً بلا جدوى ولا نفعٍ، ازدادت معاناتي يومًا بعد يوم وصرتُ أفكِّر كالحمقى عن سبيل ولو كان غير مشروع، كطَرْقِ باب العرافات أو قراءة الفنجان.
لم تتصور ملكة الكرز يومًا أني تعلَّمت لأجلها كل هذه العادات.

مرَّت الليالي كالسنين تزحف ببطءٍ شديدٍ حتى حلَّ بي التعب والوهن، لكن الأمل في لقاء قريب أبدًا لم يتبدد، ولما أصبحت الآمال في قلبي كثيرة وضعتها في صندوق أحمله أينما ذهبت؛ كي أحفظها من التلف، حتى امتلأ الصندوق عن آخره، ولم يكن ذلك ليوقف الأمنيات من التدفق فهي على أي حال مجانية، والسعي نحو تحقيقها سيزيدنا سعادة حتى إذا زادت الكلفة؛ فكل خطوة على طريق الحلم هي سعادة بحد ذاتها،
فأكملت المسير في الطرقات بين الناس أتقفى أثرها.

وذات ليلة وعلى زجاج نفس النافذة كان اللقاء المنتظر، حين عادت ملكة الكرز بعد غياب طويل تدق نافذتي من جديد عندما أيقنَتْ أن الحلم قد يتحقق، ودار بخلدها أن الاستسلام للمشاعر السلبية، والخوف مما هو قادم قد يقضي على كل ما هو جميل في حياتنا.
لكن لساني قد انعقد، وألجمته الفرحة، وتوقف عقلي للحظات عن التفكير من هول المفاجأة، فما كنت أصدق أن أشاهد هذا الوجه الجميل الذي افتقدته منذ بدأ انتشار فيروس لعين قد أغلق حدود الدول وبقى كل شخص في مكانه، ثم بدأ لساني ينساب، وكلماتي تخرج بارتباك: هل ما أراه حقيقة أم هلوسة؟

-- أين كنتي، وما الذي حدث؟ 
-- لقد بحثت عنكي في كل البلاد،
-- هل كنتي خارج البلاد، ومنعك إغلاق الحدود من العودة؟
-- أخبريني: هل أنا مستيقظ الآن، أم هو حلم في نوم عميق؟

فترقرق الدمع في عينيها الجميلتين ولم ترد، حتى اقتربت منها واحتويتها بين أحضاني، ودخلت السعادة بيتنا عندما صِرْنا زوجين، لكني دائمًا كنت أسأل نفسي كل عشية:
كيف يحيي الله هذا الأمل في قلب ملكة الكرز بعد موته،
وكان الصمت يعيش بداخلي بينما هي كانت في انتظار أن أطرح عليها تساؤلًا آخر كانت تتوقعة منذ ليلة الزواج الأولى،
عندما لفت انتباهي ندبة صغيرة كانت في كتفها الأيمن من الخلف تبدو إصابة قديمة فتلمستها دون أن أطرح سؤالي، رغم أنها تثير بداخلي حب استطلاع، لكن نظرتها بالأسفل، عندما شَعَرَتْ بيدي تتلمس تلك الندبة الصغيرة في كتفها جعلني أمتنع عن طرح السؤال،
وعلمت بعدها أن فتاتي كانت تريد أن تخبرني بشأن تلك الندبة، لأنها تعلم مدى رغبتي في اكتشاف السبب، لكنها كانت تفضل أن يأتي التساؤل منِّي، ولما تأكَّدَتْ أن ذلك لن يحدث، بادرت بالإجابة من تلقاء نفسها وهي تبتسم " تريد أن تعرف سِرَّ هذه الندبة، لكنك تفضِّل عدم الحديث عنها حتى أخبرك بنفسي " 
-- أليس كذلك؟ 
-- لقد سقطت فرع من شجرة الكرز في حديقة المنزل على كتفي بينما كنت أجمع لك بعضًا من حباته يا زوج ملكة الكرز الجميلة،
ثم تعالت أصوات الضحكات واشتدَّ العناق كأنه لن ينتهي،
ثم تشابكت أيدينا كخيوط الحرير.

ومع مرور الوقت وتتابع الأيام كانت جميع التفاصيل تتكشف بيننا بسهولة كلَّما تعمقنا في الحديث، وربما بعد وقت قصير سيصبح كل منا كتابًا مفتوحًا أمام الآخر. 
وفي يوم جميل أخبرت زوجتي ملكة الكرز أني سأذهب في رحلة قصيرة بعد أيام قليلة، وعليها أن تعتني بنفسها جيدًا في غيابي، فنظرت في عيني وتبسمت، ثم وضعت يدها على بطنها، فعلمتُ للتو أن الله قد رزقني هدية أخرى، وأن زوجتي سوف تزفُّ إليَّ بشرى سارة عن مولود لنا قد يكون قادمًا في الطريق، ولما أمسكت بيدها ونظرت في عينها، هزت رأسها وقالت:
نعم " أنا حامل ".
ثم مالت نحوي وانسدل شعرها على كتفي وهي تدعو الله من أجلي: ستكون بخير في رحلتك، وتعود سالمًا من أجلنا.
كم هو جميل أن يتحقق حلمك، وتمتلك بساطًا سحريًا يحملك عاليًا، فتجتاز تلك الأسوار التي طالما حالت بينك وبين سعادتك، وتحيا مع حلمك جميع الآمال التي كانت قد دفنت بداخلك.

كم هو رائع عندما تعلم أن الجهد الذي بذلته في بداياتك، لم يكن بطائر تلاشى في باطن السماء، ولكنه ذهب ليحضر سربًا آخر من الطيور الملونة لتغمر سماءك بألوانها الأخَّاذة، وتملأ حديقتك بالأصوات الجميلة والأغاريد العذبة الرائعة.