الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. رأفت محمود يكتب: خطوط حمراء

صدى البلد

خط أحمر، عبارة تقال كثيرًا عندما تصل الأمور إلى اللحظة التي ستكون الخسارة فيها لا تحتمل وحتمية، فهو ليس تهديد بل إعلان بأنه لا يمكن الصبر أكثر من ذلك.

الدول في إدارة علاقاتها لا تختلف كثيرًا عن العلاقات البشرية، تصبر وتتحمل خسائر، وتوازن بين مصالحها وطبيعة علاقاتها مع الدول الأخرى، ولكن هناك نقطة أو موضع لا يمكن الصبر عليه وهنا يظهر ما يطلق عليه الخط الأحمر.

قصة الخط الأحمر لم تكن وليدة العصر الحالي أو تلك اللحظة التي أطلقت فيها مصر إنه هنا توجد مصالح ولا يمكن التغاضي عن واقع يفرض لتهديد أمنها القومي، حيث دائما يرتبط الخط الأحمر فى علاقات الدول بمصالح قومية يُرغب فى تحقيقها أو تهديد وجودى لها من قبل قوى أخرى. 
تشبيه العلاقات الدولية في طبيعتها بالعلاقات البشرية يُرجعنا إلى كتاب هام أصدره مفكر ألماني أسمه فردريك راتزل (1844-1904) حيث أكد على أن الدولة لا تثبت حدودها السياسية، والدولة لديه أشبه بإنسان ينمو فتضيق عليه ملابسه عاما بعد عام فيضطر إلى توسيعها، وكذلك ستضطر الدولة إلى زحزحة حدودها السياسية كلما زاد عدد سكانها وتعاظمت مطامحها ومطامعها، وهنا تبدأ قصة الخطوط الحمراء الجغرافية والصراع فى العلاقات الدولية.

ويحدث ما يطلق عليه التجاذبات فى العلاقات الدولية عندما تتقاطع الخطوط الحمراء غالبًا مع تطلعات القوى الأخرى وتتحدد مدى القدرة على التوسع وتعدي الخطوط الحمراء أو المحافظة عليها بمدى إدراك صانع القرار لأهمية الأبعاد الحيوية للأمن القومى للدولة التي يتولى مسئوليتها والقدرات الشاملة لدولته فى مقابل رغبات الأخرين وقدراتهم على تعدى هذه الخطوط.

وأغلب التجاذبات أو الصراعات بين الدول هي في حقيقتها عبث بالخرائط السياسية أو تهديد للخطوط الحمراء، ولنقرأ معًا ما تحت السطور من خلال التعرض لعدة مشاهد تاريخية قريبة.

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ونتيجة لما تعرضت له ألمانيا من حصار عسكرى ومالى وإهانة قومية قام العديد من الجغرافيين الألمان بإيجاد تأصيل علمى لما أطلق عليه علم السياسات الأرضية أو ما اصطلح على تسميته بالجيوبوليتيك، وضمت هجينًا من الفكر الجغرافي والتاريخي والسياسي والقومي والاستعماري وحددت الخطوط الحمراء التي تمكنها من تحقيق أهدافها القومية.

فقد تم توظيف الجغرافيا لتحقيق أطماع قومية وتحقيق التوسع الألماني وغلفت تلك الأطماع بادعاءات قومية وتاريخية، ولتقديم معلومات عن أحقية ألمانيا في أراض وبلدان تبعد عنها مئات الأميال شرق أوربا، ومن هنا أطلق عليه العلم الاستعماري.

ما تقدمه تركيا الآن فى القضية الليبية يعتبر نموذج فج قدمته الدول الاستعمارية سابقًا، فما تفعله الأن فى المنطقة لا يختلف كثيرًا عن ما قامت به ألمانيا النازية أو حتى القوى الاستعمارية كافة وتمثل نموذج لدولة استعمارية تغلف مشروعاتها بحجج تاريخية وقومية ودينية.

فتركيا في البداية تحدثت عن ما أطلق عليه الإرث العثمانى في ليبيا، كأنها أراضى بلا بشر أو نعاج تساق، ثم التحدث عن التركمان الليبيون الذين بقوا منذ فترة الاحتلال العثمانى للأراضى الليبية وهم بالمناسبة لا يعدون بأى حال من الأحوال عامل مؤثر فى التكوين القبلى والديموجغرافى الليبى، وعندما لم يجد هذا العامل التأثير المرجو ثم التحدث عن الشرعية التي تمثلها حكومة انتهت ولايتها وشرعيتها وإنها تطلب معاونة تركيا فى مواجهة قائد عسكرى يرغب فى السيطرة على مقدرات ليبيا.

توازى مع هذا سيل من التصريحات أفصحت عن الأهداف الحقيقية وتتعلق بالغاز وثروات شرق المتوسط والحقوق التركية التي يجب الحفاظ عليها، ثم ظهر إلى النور ما أطلق عليه استراتيجية الوطن الأزرق وهى استراتيجية تم وضعها منذ أكثر من عقد من الزمن بهدف وضع اليد التركية على ما يسمى المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري والمياه الإقليمية المحيطة بتركيا التي تتيح حرية استخدام جميع الموارد البحرية الموجودة فيها والتي تعادل نصف المساحة البرية لتركيا، وجدير بالذكر إن تركيا تستورد نسبة 95% من إجمالي احتياجاتها من المنتجات البترولية والغاز وبتكلفة تصل إلى 50 مليار دولار سنويًا.

بعيدًا عن تركيا نجد ما تقوم به إثيوبيا فى رغبتها فى تعظيم قدراتها وفي صلب سياساتها القومية المياه التي أطلق عليها الاستراتيجية الزرقاء لإيصال المياه إلى مرتبة النفط كسلعة تتحكم فيها وتباع وتشترى ضاربة عرض الحائط بكل المواثيق والقوانين والأعراف الدولية، وهنا تنظر إلى التجربة التركية فى هذا الشأن حينما فرضت سطوتها على نهرى دجلة والفرات فى سلسلة السدود التي قامت ببنائها وتحكمت بالفعل فى مياه النهرين وأصبح العراق وسوريا تحت سطوة السدود التركية.

لذلك فالعلاقات الوثيقة القائمة حاليًا بين إثيوبيا وتركيا ومن ذلك الزيارة الملفتة للنظر لممثل رئيس الوزراء الإثيوبي نهاية الأسبوع الماضى بعد تجاذبات ليبيا وتصريح الملء لبحيرة سد النهضة الذى نفته إثيوبيا بعد ذلك، مما يشير إلى طبيعة التنسيق بين الدولتين تجاه مصر.

لذلك كانت خطوط مصر الحمراء التي توضح فيها مصالحها التى تدرك إنها باتت مهددة بسبب التوسع التركى فى المنطقة أو الأهداف الإثيوبية الخفية من وراء بناء السد، هنا الأمن القومى المصرى معرض لتهديدات وجودية لا تحتمل التساهل أو التأجيل فى التصريح بأن هذا خط أحمر.
 
ولعل الحادثة الأشهر التي توضح أهمية الخطوط الحمراء التي لا يمكن أن تتنازل عنها الدول حادثة خليج الخنازير والتى كادت أن تؤدى إلى حرب نووية بين المعسكرين الشرقى والغربى حينئذ، فقد قام الاتحاد السوفيتى السابق بإرسال صواريخ نووية خفية إلى كوبا وعلى بعد 90 ميلا جنوب فلوريدا شرق الولايات المتحدة الأمريكية.

الحدث أدى إلى تغير جذري في التنافس النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وهذا بالنسبة للأمن القومى الأمريكى خط أحمر، فكان التهديد بغزو كوبا وتم حصارها بحريًا وتوقفت انفاس العالم حينئذ لاحتمالية نشوب حرب نووية حتى أنتهى الأمر بسحب روسيا الصواريخ النووية مع أمريكي بعدم غزو كوبا. انتهت الأزمة ولكنها كانت حاسمة فى وضع مفاهيم عديدة لكيفية إدارة أزمات دولية من العيار الثقيل وتحديد مفاهيم للأمن القومى وخطوط حمراء لا تتنازل عنها الدول.

أيضا فى حرب السادس من أكتوبر 1973 فقد اعتبر الحفاظ على الخط  الأحمر بالنسبة لإسرائيل وهو خط بارليف هدفا استراتيجيا لمصر أيضًا ولكن باقتحامه وتدميره لأنه بانهياره واجتيازه سيصبح ما بعده مجرد تفاصيل ومساومات لإنهاء الأمر بين القوتين المتصارعتين. 

وفى منطقة سرت الجفرة نجد الخط الأحمر المصرى فهذه المنطقة بانهيارها سينتهى كل شيء النفط والغاز سيغذى شرايين المحتل التركى ووصول البلطجى إلى الناصية الغربية للحدود المصرية ليس فقط بالمرتزقة والإرهابيين ولكن بقواعد جوية وبحرية تحتوى على طائرات من أحدث الطرازات وبوارج مقيمة بصفة دائمة بالقرب من الشواطئ المصرية. 

مصر هنا لم تتحرك إلا بحساب دقيق تدرك فيه إن الهدف ليس فى المجمل ليبيا بل فى النهاية هى مصر التى ستكتوى بالنار التى تقاد بهدوء فى ليبيا الدولة التى بنجاح المخطط لها لن تعود وطنًا لليبيين بقدر ما ستصبح خنجر مسموم فى الخاصرة المصرية وسيوظف بالقطع ليس لصالح تركيا بل لصالح أيضًا من يوظفون تركيا فى المنطقة ومنهم بالمناسبة قوى غربية تتظاهر بالامتعاض من التحركات التركية في المنطقة.

تلك القوى التي تحاول أن تعيد رسم خارطة المنطقة، وبالتالي فمصر هنا لا تدافع عن أمنها فقط ولكنها تدرك إن المخطط التركى امتداد لما يراد للمنطقة فى إعادة تشكيل خارطة المنطقة فالارتباط بين ما يحدث فى ليبيا وثورة 30 يونيو واضح فمرحلة الاستنزاف للدولة المصرية هى الهدف فلو قدر السيطرة على ليبيا فإن مصر لن تهنأ بما قدمته من أداء رفيع المستوى سواء على مستوى إعادة تثبيت أركان الدولة ودعم القدرة العسكرية وإعادة التوازن إلى المنطقة التى تترنح بقوة ومؤشرات اقتصادية ستعظم من قدرتها وتحقق استقلالية فى اتخاذ القرار. 

لذا فحالة السعار التركى تجاه مصر لها ما يبررها الأن لأنها عداوة بين نقيضين لهم خطوط حمراء تتقاطع على مستوى الإقليم كله ولن تهدأ تركيا حتى تحقق أهدافها أو تجد إنها تُعامل بخشونة وتدرك عواقب تحركاتها، لأنها لا تواجه أعداء أقوياء إلا بالمؤامرة والتاريخ التركى خير شاهد على ذلك.  

لذا فإنه بنهاية الأحداث الدائرة حاليًا ستتحدد إلى قدر كبير مستقبل مشروع إعادة رسم خريطة الجغرافيا السياسية للمنطقة، وموقف الدفاع عن الخطوط الحمراء التي تعانى المنطقة من استباحتها من قوى إقليمية ودولية عديدة.