تمثلت أهم أدوات ومقومات تشكيل الوعي الوطني والمجتمعي سابقًا ، في الأسرة والقرية والمدينة والمدرسة والجامعة والصحيفة والمسجد والكنيسة ... وبرغم أهمية تلك الأدوات ودورها في بناء الوعي لسنوات طويلة ، إلا أننا نعيش الآن في عالم جديد ، عالم الفضائيات والتواصل الاجتماعي وشبكات المعرفة ، حيث الخطاب شفاهي ومقروء وقاصد ومقصود .. مما جعل هناك زوايا رؤية لا تحصى وأهداف ذات ارتباط شديد بالايديولوجيا والمصلحة ، وجعل أيضًا عملية بناء الوعي عملية معقدة وصعبة في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ، التي أصبح لها نفوذ كبير وتحرك الرأي العام ، وتستخدم في بعض الأحيان لتهديد استقرار الدول من خلال الهجوم على مؤسساتها ونشر الأكاذيب والشائعات دون وجود رقيب.
والحقيقة التي لا شك فيها ، أن وسائل التواصل الاجتماعي "السوشيال ميديا" قد استغلت الساحة الفارغة المتروكة لصالحها بالوعي السلبي ، ونشر الأفكار المتطرفة ، والعبث بقيم وتقاليد المجتمع ، ومحاولة التشويش على إنجازات الدولة وخطواتها في جميع المجالات.
لقد حذر مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية في تقريره الخامس والعشرين من تنامي ظاهرة إعلام الإرهاب الإلكتروني ، التي كانت سببًا أساسيًا في انتشار العنف والتطرف ، موضحًا أن المنتديات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي أضحت الأداة الأهم في يد الجماعات الإرهابية لنشر أفكارها المتطرفة ووضع خططها وتجنيد أعضائها ، لأن 80% من الذين انتسبوا إلى تنظيم داعش تم تجنيدهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، وقد ارتفع عدد المواقع الإلكترونية المحسوية على هذه الجماعات من 12 موقعًا إلكترونيًا عام 1997 ليصل بحسب الإحصائيات عام 2015 ، إلى 150 ألف موقع .
وهنا يبرز دور الإعلام بوجه عام ، من خلال التركيز على فحص ذلك الكم الهائل من المعلومات الجديدة الواردة التي توثق طبيعة التنظيمات الإرهابية المتطرفة ، من أمثال "داعش" وممارساته وأهدافه ، ولا سيما تلك المعلومات التي يتم الحصول عليها من بعض العناصر المنشقة عن التنظيم ، بعدما اكتشفوا ماهية التنظيم وزيف دعاياته ومغرياته ، وأخلاقياته التي تتعارض كليًا مع الشعارات التي يطرحها... وهنا تبرز أيضًا أهمية تفعيل الإعلام الوطني ، لإضعاف النشاط الإعلامي للتنظيمات الإرهابية وخنقه بوسائل مختلفة وبرامج متقنة لتوضيح حقيقته في عيون الكبار والصغار ، وتغيير محتويات مواقع الانترنت ، من صور ونصوص دعائية للتنظيم ، ولا سيما الدعوة إلى الجهاد المزعوم والأفكار الدينية المزيفة.
من جهة أخرى ، فإذا كانت وسائل الإعلام تصنف قديمًا بأنها تمثل السلطة الرابعة ، فإنه يمكن تصنيفها حاليًا بأنها تمثل السلطة الثانية بل الأولى ، نتيجة لما تحققه من نتائج ملموسة وتغيرات جذرية في السياسات والاستراتيجيات ، والأهم في مواجهة الفكر الإرهابي المتطرف ، لاسئصال هذا الفكر من جذوره ، والقضاء على آفته الخطيرة التي تنتشر كالوباء ، ولا سيما بين الشباب .
إن مصادرة العقل والوعي هي السلاح الأخطر في زمن السطوة الإعلامية والتواصل المفتوح ، وهنا يجب أن نميز بين الإعلامي المبدع الصانع والإعلامي التابع الضائع .. فالإعلامي المبدع الصانع هو القادر على الفهم والإقناع ، والتعبير عن الرأي العام بكافة أشكاله ، والمساهمة في صياغته وتكوينه ، يتمتع بالعلم والخبرة ويتحلى بالثقة والأمانة والصدق ، ويعرض كل الحقائق بحيادية حتى لو كان بعضها يحتوى على مظاهر سلبية أو غير مرغوبة .. أما الإعلامي التابع الضائع فهو الذي يتبنى فكر الآخرين ، ولا توجد لديه القدرة على الإقناع والتوعية ، بل يستعرض فقط ما ينشر في الصحف والمجلات ووسائل التواصل الاجتماعي ، وهو المتسبب الأول في انخفاض نسب المشاهدة والإنصراف عما يذاع أو ينشر .
الإعلام يا سادة ، ليست وظيفة تقليدية ، أو عمل روتيني .. بل هو علم وثقافة وعمل إبداعي يحتاج إلى مبدعين وليس تابعين .. ولذلك نحن بحاجة إلى إصلاح إعلامي عاجل يتحقق به الوعي قبل فوات الآوان ، وإلى كوادر بشرية مؤهلة قادرة على النقاش والإقناع ، تستخدم لغة العقل والقلب لكسب الآراء ، وتمتلك القدرة على الجذب والترغيب لانتزاع الإرادة الجماعية وفرض الموقف وزرع الرأي ، والتغلغل الذي ينفذ إلى طبقات اللاوعي ، الفردي والجماعي ، لدى جماهير المتلقين من الصغار والشباب والكبار.
وفي ذات السياق ، اقترح تشكيل لجنة لإدارة تطوير المحتوى البرامجي في جميع القنوات الفضائية ، وللتنسيق والتعاون فيما بينها لوضع استراتيجية لخلق الوعي الوطني والمجتمعي ، والتصدى للشائعات والأخبار الكاذبة والأفكار المتطرفة .. هذا بجانب التسيق والانسجام في الأدوار بين الإعلام ووزارات الثقافة والشباب والرياضة والأوقاف وغيرها من الجهات المعنية.
معركة الوعي (3)
