الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

حكاية السهرة.. انت عمري استغرقت عام من عبدالوهاب وسجلتها أم كلثوم بأكلة كباب

صدى البلد

لقاء السحاب.. ليس لقاء ريال مدريد وبرشلونة، أو الأهلي والزمالك.. بل كان لقاء موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وسيدة الغناء العربي أم كلثوم، ذلك اللقاء الذي لم يكن يصدق أحد أن يجمع هاتين القامتين عمل فني واحد، لكنه حدث في رائعة "انت عمري".

لقاء قبل 5 سنوات من ظهوره للنور

لهذا اللقاء قصة طويلة، تبدأ من خمسة أعوام سبقت ظهوره للجماهير، ذات يوم دق جرس التليفون في بيت الموسيقار محمد عبد الوهاب؛ وكان المتحدث الشاعر أحمد شفيق كامل، الذي بدأ يلقي على مسامع عبدالوهاب ابياتا شعرية دون أن يلقي عليه التحية، وظل عبد الوهاب يستمع بإنصات مستمتعا بما يسمعه، إلى أن انتهى كامل من القصيدة، ليطلب منه الموسيقار الحضور إلى منزله بالكلمات كاملة، لأنه قرر تلحينها لنفسه.
في ذلك الوقت كان عبد الوهاب يفكر في عمل مشترك يجمعه بسيدة الغناء،  وعرض فكرته على أحمد الحفناوي عازف الكمان في فرقة أم كلثوم، ورجاه أن يجس نبضها في ذلك الموضوع، فعاد إليه الحفناوي بعد أيام يعلن عن الموافقة المبدئية لأم كلثوم على هذا المشروع، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن،  حيث مرض عبد الوهاب ونقل إلى المستشفى، وزارته أم كلثوم وقتها وكان عبد الحليم موجوداً، وفتح عبد الوهاب الحديث في الموضوع القديم،  وأبدت أم كلثوم استعدادها، وعندما خرج من المستشفى كانت فكرة التعاون الفني بينهما قد استقرت في ذهن الثنائي، وبدأ العندليب في الإلحاح على رأس عبد الوهاب بين الحين والآخر، وبعدها عرض عبد الوهاب مجموعة من الأغنيات على أم كلثوم ومنها أغنية أحمد شفيق كامل، التي أعجبت بكلماتها فاختارتها.

الشرارة الاولي في منزل سيدة الغناء

في منزل أم كلثوم اجتمع كل من عبد الوهاب، وأم كلثوم وأحمد شفيق كامل لقراءة الأغنية من جديد،  واعترضت أم كلثوم على بعض الكلمات، حيث كانت الأغنية تبدأ بــ“شوقوني عينيك لأيامي اللي راحوا”، فطلبت تغييرها إلى "رجعوني عينيك لأيامي اللى راحوا"، وفي مقطع آخر: “من حنان قلبي اللي بيشابي لحنانك”، وطلبت تغييرها إلى "من حنان قلبي اللي طال شوقه لحنانك"، وهنا اعترض كامل موضحا أن كلمة "بيشابي" تشبيه لعواطف الطفل الذي يريد أن يطول شيئاً طالت لهفته عليه، وكان رأي أم كلثوم أنها كلمة عامية تستعمل في مصر فقط، تغني لكل الملايين العربية، وأصرت على أن اللغة العربية مليئة بالكلمات السهلة التي تؤدي إلى نفس المعنى.
أما عبد الوهاب فقد اعترض على جملة "قد إيه من عمري قبلك راح وعدى، راح كأن العمر قبلك ليلة واحدة، ليلة من دمعي ومن نار الجراح"، فاستبدلها الشاعر بــ"قد إيه من عمري قبلك راح وعدى يا حبيبي، ولا شاف القلب قبلك فرحة واحدة ولا داق في الدنيا غير طعم الجراح".

عبد الوهاب يمسك بعوده

بدأ عبد الوهاب العمل على الأغنية بمجرد العودة لمنزله، ولأنه من النوع المتردد "الموسوس" فهو يستطيع أن يفرض شخصيته على أي مطرب يلحن له، لكن أم كلثوم فنانة من نوع آخر، ليس من السهل أن يفرض ملحن شخصيته عليها، وظل عبد الوهاب أكثر من عام يلحن في الأغنية ويغير ويبدل في اللحن رغبة في الوصول إلى أفضل النتائج، لأن أم كلثوم كانت متأكدة أن لديه الأفضل، وفجأة توقف عن إكمال التلحين نتيجة لخوفه واحساسه دائماً بعدم التكامل في اللحن، وقد استمر هذا الخوف والتردد مدة طويلة.

كمال الطويل يربك حسابات عبد الوهاب

كمال الطويل وأم كلثوم

أثناء توقف عبد الوهاب، ظهر في الصورة الملحن كمال الطويل، الذي كان قد لحن مطلع الأغنية وأسمعها لأم كلثوم فأعجبها اللحن، وطلبت منه أن يستمر، لأنها اعتقدت أن عبد الوهاب صرف نظر عن تلحين الأغنية، وحينما شعر عبد الوهاب بذلك أخذته غيرة الفنان على فنه، وعرف كمال الطويل أن عبد الوهاب قد نشط إلى تلحين الأغنية من جديد فتنازل عن تلحينه لها واعتذر لأم كلثوم، وبدأ عبد الوهاب يعيش فترة جديدة من حياته مع هذا اللحن، فترة عاشها على أعصابه، كان عبد الوهاب يشعر أن هذا اللحن بالنسبة له كأنه أول عمل فني يعرضه على الجمهور، وكان كلما خطر له خاطر في جملة موسيقية، أو فكرة في التعديل أو الإضافة لما بين يديه يترك كل أصدقائه ويختلي بنفسه ثم يعود ليسمعهم ما أدخله على اللحن ويأخذ رأيهم، وكان يعتز جداً بآراء عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وأحمد فؤاد حسن.

الزعيم عبد الناصر يطالب الثنائي بإنهاء الأغنية

تسربت بعض أخبار هذا العمل للصحافة، وبدأت الاخبار في الانتشار،   فجعلت الكل متشوقاً للعمل والجميع يسأل عنه، وحدث في احتفال 23 يوليو 1963، أن سأل الرئيس جمال عبد الناصر أم كلثوم وعبد الوهاب: "أين هي الأغنية التي نقرأ في الصحف أن أم كلثوم ستغنيها ويلحنها عبد الوهاب؟"، وردت أم كلثوم: "نحن أنجزنا الكثير"، وقال عبد الوهاب: "وأنا أضع اللمسات الأخيرة"، وقبل أن يسافر عبد الوهاب إلى لندن في صيف 1963 سجل الأغنية بصوته وأرسلها لأم كلثوم لتحفظها، لكن في لندن وضع للحن لمسات أخرى، وعاد عبد الوهاب من لندن، وقبل أن يجتمع بالأوركسترا، كان قد اجتمع مع أم كلثوم عشرين مرة.

خلية عمل مستمرة للانتهاء من الأغنية

بدأ عبد الوهاب يجتمع مع كل مجموعة من الأوركسترا على حدى، بعيدا عن أعين الصحفيين، وكانت أم كلثوم حريصة على إخفاء كل خبر عن اللحن كعادتها مع كل الذين لحنوا لها، ونفس الأمر مع عبد الوهاب، الذي كان يخشى أن يحدث أي خلاف بينه وبين أم كلثوم ينتهي إلى فشل المشروع، واقترح إضافة آلة الجيتار الكهربائي إلى الفرقة، فرفضت أم كلثوم رفضاً قاطعاً، على أساس أن فرقتها من التخت الشرقي، وأن جمهورها لم يعتد سماع أي آلة غربية في فرقتها، فلم يعاند عبد الوهاب، لكنه بذكائه حضر إليها في الصباح بصحبة عبد الفتاح خيري، وطلب منه أن يسمعها مقطع اللحن المقترح عزفه بالجيتار الكهربائي، وحينئذ فقط وافقت أم كلثوم، وبدأت البروفات التي استغرقت شهراً كاملاً، وكانت كل بروفة تستمر لمدة أربع ساعات يومياً.

 

اقتراب ساعة الصفر

مع اقتراب عام 1963 من نهايته، كان عبد الوهاب يريد أن يطمأن على اللحن، وفي ليلة رأس السنة كان عبد الوهاب قد وجه الدعوة إلى عدد من أصدقائه الفنانين، ليستقبلوا معه فجر العام الجديد، وكانت المفاجأة الكبرى لفريد الأطرش وليلى فوزي وجلال معوض وصلاح ذو الفقار وأحمد فؤاد حسن أن غنى لهم عبد الوهاب لحنه الجديد بنفسه، ومن صيحات الإعجاب التي تعالت من الجميع عرف عبد الوهاب قيمة العمل الكبير الذي سيفاجئ به الجمهور في الموسم الجديد.

وصول الاستوديو لتسجيل الاغنية

وفي يوم الأربعاء 29 يناير 1964 الموافق 14 رمضان كان عبد الوهاب بصحبة أم كلثوم وفرقتها الموسيقية في مبني الإذاعة لتسجيل الأغنية الجديدة، وبدأ التسجيل في العاشرة صباحاً وانتهى في العاشرة مساءً، كان القلق والتوتر يبدوان على عبد الوهاب طيلة الوقت، وكان كالأب الذي ينتظر نتيجة الولادة، كان يروح في الاستوديو ويغدو ويدندن ويضبط نغمة شاردة فتعيدها الفرقة، ويتفاهم مع أم كلثوم على جملة موسيقية، وينقلان نتيجة التفاهم للفرقة الموسيقية، وعبد الوهاب لا يستقر ولا يهدأ، ونظراته حائرة.

أكلة كباب على حساب أم كلثوم الصائمة

إفطار أم كلثوم وعبد الوهاب وعبده صالح

كانت أم كلثوم صائمة، والفرقة ايضا، وعندما حان موعد الإفطار رفضت أم كلثوم أن يذهب أعضاء الفرقة الموسيقية لتناول الافطار في منازلهم، لأنها لم تنته بعد من تسجيل الكوبليه الأخير، وأرسلت تطلب كميات هائلة من الكباب، وجلست الفرقة تتناول طعامها، بينما جلست هي ومحمد عبده صالح يتناولان طعام الإفطار الذي أرسل إليها من منزلها ومعهما محمد عبد الوهاب شارداً في ملكوت اللحن. 

في الاستوديو

بعد ساعة من الإفطار عادت أم كلثوم لتسجيل المقطع الأخير من الأغنية، وكانت هذه آخر مرة تغني فيها أم كلثوم انت عمري مع فرقتها قبل يوم السادس من فبراير 1964.

 

وجاءت الليلة الكبرى.. لقاء السحاب

المكان: مسرح حديقة الأزبكية، الزمان: مساء الخميس 6 فبراير 1964 فجر الجمعة، 80 مليون عربي كانوا يلتفون حول أجهزة الراديو هذا المساء ينتظرون في شوق ولهفة المولود الجديد، وبعد منتصف الليل بأربعين دقيقة، بدأت الفرقة الموسيقية عزف مقدمة الأغنية لينطلق صوت أم كلثوم بعد دقائق عبر الأثير يعلن وصول المولود الجديد.
كان يوم الخميس هذا يوماً حافلاً بالنسبة للثلاثة الذين قدموا هذا العمل الضخم بعد طول انتظار، أم كلثوم أجرت بروفة مع عبد الوهاب حتى الظهر، ثم نامت هي وانطلق هو بسيارته إلى المقابر، حيث زار قبر أمه كعادته عندما يقدم على عمل يهتم به، وفي الثالثة بعد الظهر عاد عبد الوهاب إلى المنزل ونام حتى المساء.
اتجهت كل الأنظار في الصالة إلى البنوار رقم "9" شمال، عندما دخلت فيه السيدة نهلة القدسي زوجة الموسيقار  مع بعض أقاربها بدون زوجها، الذي ظل هو في المنزل يستمع الى الحفل من جهاز راديو صغير، وبدأ الحفل، وأخذ حسين شاش يقدم الحفل للجمهور عبر الأثير، وانفرج الستار عن أم كلثوم التي كانت ترتدي فستاناً من الشيفون الأخضر الزيتوني، تحلي صدره فصوص من الكريستال، واختفى البروش الماسي من فوق صدر أم كلثوم في هذا الحفل، وبدأت كوكب الشرق تتغنى بلحن "كل ليلة وكل يوم"، وكأنما كانت هذه ساعة الصفر،  فقد قام عبد الوهاب ليستعد للخروج فأعدت له مديرة البيت البالطو والطربوش، بينما هو يتمتم بآيات من القرآن الكريم، وانطلقت السيارة تحمل عبد الوهاب الى مسرح الأزبكية، ودخل عبد الوهاب من باب الكواليس وعندها انتهت الأغنية ودخلت أم كلثوم الى الكواليس، فهنأها قبل أن تدخل الى حجرتها، وأسرع هو الى خشبة المسرح فاستبقى الموسيقيين وبدأ من خلف الستار يجري معهم البروفات الأخيرة، وقد ركز عبد الوهاب اهتمامه في إجراء بروفات على المقدمة الموسيقية تحديدا، وعلى تغيير المقدمة الموسيقية لكوبليه "الليالي الحلوة والشوق والمحبة"، التي كانت قد سجلت في الأستوديو بشكل آخر، بينما جلست كوكب الشرق في حجرتها تتلو بعض آيات القرآن، وفي الثانية عشرة والنصف قامت وتوجهت الى خشبة المسرح، حيث اشتركت مع الموسيقار عبد الوهاب في البروفات الأخيرة.

وفي الساعة الثانية عشرة و40 دقيقة رفع الستار عن ام كلثوم، بعدما قدمها جلال معوض لمستمعيها عبر الأثير، بينما كان الموسيقار عبد الوهاب خلف الديكور الذي يحيط بأم كلثوم وفرقتها، ومع بداية المقدمة الموسيقية بدأ عبد الوهاب يسمع من خلف الكواليس وقلبه يخفق، كانت يداه لا تكفان عن الحركة وشفتاه ترددان آيات القرآن، وصفق الناس للمقدمة الموسيقية لدرجة انهم قاطعوها منذ بدايتها فاضطرت الفرقة الموسيقية الى اعادتها، وأخذ عبد الوهاب نفساً طويلاً، وأعيدت المقدمة الموسيقية بعد ذلك مرتين، والناس تصفق، وعبد الوهاب يقف خلف الديكور، وقلبه يهدأ رويداً رويداً والابتسامة تتخذ طريقها الى وجهه، والقلق يغادر مسرح الأزبكية كله، وبدأت أم كلثوم تغني والناس تتمايل طرباً، وعبد الوهاب في مكانه في الظلام يتمايل هو الآخر، وهو يبكي، حيث لم يستطع منع دموعه من أن تنفلت وهو يسمع الناس تستزيد أم كلثوم، حتى أعادت المذهب 4 مرات، واستغرقت المقدمة الموسيقية 9 دقائق، استرد عبد الوهاب خلالها كثيراً من هدوئه، ثم جاء المذهب وصفق الناس مقاطعين أكثر من مرة، فازداد هدوء عبد الوهاب، وبعد 40 دقيقة من بدء الأغنية كان عبد الوهاب سعيداً جداً، فأسرع يرتدي البالطو والطربوش ليكمل سماع الأغنية في السيارة، وأسرع الى حجرته ليستمع الى بقية الأغنية من المذياع، وانتهت الأغنية عند الساعة الثانية وخمسين دقيقة، وبعد دقائق دق جرس التليفون، كانت أم كلثوم تتحدث من مسرح الأزبكية، وطلبت منه الحضور فورا، وسألها عبد الوهاب مندهشاً: "ليه ؟"، وأجابته "بس تعالى، عايزاك تحيي الناس"، وفهم عبد الوهاب أن كوكب الشرق تريده أن يظهر معها على المسرح ليحي الجمهور بعد انتهاء الحفل، فاعتذر لها بلباقة، ودق جرس التليفون مرة أخرى، وكان فريد الأطرش يدعوه للانضمام إلى ضيوفه من الفنانين الذين قضوا سهرتهم مع لحنه وصوت أم كلثوم.

واتجه عبد الوهاب الى بيت فريد الأطرش، كانت الساعة قد بلغت الثالثة والنصف، وكان الحضور الشاعر كامل الشناوي وصلاح ذو الفقار وجلال معوض، الذي وصل إلى بيت فريد بعد تقديمه إنت عمري، إضافة إلى أحمد فراج وليلى فوزي وسعيد أبو بكر، ثم انضمت إليهم نهلة القدسي بعد عودتها من مسرح الأزبكية، وأبدى الحضور إعجابهم باللحن والأداء والكلمات، وظل الجميع يتسامرون حتى الفجر، وكانت الساعة تقترب من الخامسة والنصف عندما عاد عبد الوهاب إلى بيته وهو يقول: إنني أريد رأي الناس، الناس، الجمهور في كل مكان".