الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

بعد حصولها على جائزة الكومنويلث.. ننشر فصلًا من رواية "آزوري"

صدى البلد

حصلت رواية "آزوري" على جائزة الكومنويلث عن العمل الأدبي الأول فرع أفريقيا، وهي من تأليف الروائي الجنوب أفريقي ك. سيلو دويكر.


وخلال العام الحالي خرجت الترجمة العربية للرواية، والتي ترجمتها دار العربي للنشر من خلال المترجم محمد أسامة.

وإيمانًا بالدور الذي يلعبه صدى البلد، في محاولته لرفع حالة الوعي لدى القرّاء، فقد اتفقنا مع دار العربي للنشر، على نشر فصل من تلك الرواية.

فصل من الرواية:-

اسمي "آزوري".. يُنطق هكذا: "آاا-زو-ري". رحلت أمي ولم تترك لي سواه.
لي عينان زرقاوان، وبشرة داكنة. اعتدتُ أن يحدق الناس فِيَّ، خاصَّةً الكبار. كما اعتدت أن يضربني أطفال المدرسة لزُرقة عَيْنَيَّ؛ كانت تثير كراهيتهم. أما الآن، حينما ينظر الأطفال إليَّ، فإما أن يشتمونني، أو أن يبتسموا، بينما يرمقني الكبار بنظرات ذات مغزى.

أعيش وحدي، متخذًا شوارع ضاحية "سي بوينت" الفخمة بيتًا لي. واليوم أصبحت أقرب إلى الرجولة؛ إذ أوشك أن أبلغ ثلاثة عشر عامًا، ويمكنني العثور على طعام لم يلوث بالكثير من النمل والذباب قرب شواطئ "كامبس باي" و"كليفتون"، ذلك إن خَلَتِ الشوارع من دوريات الشرطة بالطبع، فهم لا يعاملوننا بلطف كافٍ. 

حين أرغب في بعض الفاكهة، أذهب إلى المحطة، حيث يعمل تجار الفاكهة المُلوَّنون من أبناء الجذور المختلطة. أنا - في الحقيقة - لا أحبهم، فهم دائمًا ما يصيحون فينا كي نبتعد. يفضل أكثرهم إلقاء الفاكهة في القمامة، على أن يعطوها لنا. كما أنهم يضعون أشياء خبيثة في صناديق القمامة التي نقصدها بحثًا عن الطعام، أعرف ذلك، فأنا لست بأحمق. أعرف أنهم أشرار.

حتى أنني أعرف بعض الأطفال اللذين وقعوا في أسر تلك التعاويذ الشريرة، فصاروا مجبرين على التجول ليلًا لاصطياد الزبائن المدمنين، بل إن السحر الأسود قد تملَّك من بعض الأطفال حتى صاروا قادرين على التحول التام، إما إلى جُرذان أو حمام، والحمام نوع من الجُرذان، غير أن له أجنحة. ما إن تصير جُرذًا حتى يجبروك على فعل الخبائث في مصبَّات المجاري والأماكن المُظلمة. تلك هي الحقيقة، وهذا هو الحال. لقد رأته عيناي.


لكنني - مثلما قلت - أوشك أن أصبح رجلًا، ويمكنني الاعتماد على نفسي. يصيح تجار الفاكهة بالأفريقانية: "على أمثالكم الذهاب إلى المدرسة"، ولماذا لا يقولون ذلك، يا لسهولة الأقوال! فقدت أبويَّ منذ ثلاث سنوات. كان أبي سفيهًا وورَّط أُمِّي في المشاكل. كنت في المدرسة يوم مقتلهما. عُدتُ إلى كوخنا فوجدتهما جُثَّتين في بركة من الدماء. وقعت الحادثة قبل ثلاث سنوات، كان يومها آخر عهدي بالمدرسة.

أسير كثيرًا. تشقق باطن قدميَّ، لكنني نظيف؛ أستحمُّ كل صباح على الشاطئ. أغتسل بماء البحر، وأستعمل الإسفنجة أحيانًا، فإن لم أجد واحدة استخدم خرقة قديمة لتؤدي المهمة نفسها، ثم أشطف ماء البحر تحت رشاشات الاستحمام الخاصة بالشاطئ. ليس الاغتسال بالماء البارد صعبًا كما يبدو، بل يمكن اعتياده، تمامًا ككل شيء آخر.


لا يصدق صديقي "بافانا" أنني لم أفزع من رؤية جُثَّتَي أبويَّ، لكنني أخبرته بما فعلت يومها. بكيت، وانتهى الأمر، فما كان أحد ليشفق عليَّ مهما فعلت. ما زال "بافانا" طفلًا لم يتجاوز التاسعة بعد، ومع ذلك يسكن الشوارع. إنه طفل أحمق، له بيت بضاحية "لانجا" في مدينة "كيب تاون"، يمكنه العودة إليه، لكنه يفضل التسكُّع في الطرقات. حين يكسب المال، يشمُّ الغراء، ويدخن "الماندركس". لا أحب ذلك الشيء؛ لأنه يؤلم رأسي، لكنني أحب تدخين الحشيش، أحبه بشدة. حين يشم "بافانا" الغراء، ويدخن "الماندركس"، يتحول إلى حيوانًا حقيقيًّا؛ يُشخِّر مثل الخنازير، ويتثاقل لسانه، ويتغوَّط في بنطاله. لذا أضربه عندما أراه يدخن ذلك الشيء. ضربته مرة بقوة حتى اضطر إلى الذهاب إلى المشفى لخياطة الجرح. لا أحب تلك الأشياء، إنها تضر جسدك أشد الضرر.

أنام في "سي بوينت" قرب حمام السباحة؛ لأنه المكان الأكثر أمنًا خلال الليل. تحوي المدينة قوَّادين، ورجال عصابات كُثُرًا. لا أريد كسب المال على طريقتهم، لذا أساعد في ركن السيارات صباحًا في "كيب تاون"، وليس ذلك بعمل يسير؛ فعليك الوصول مبكرًا، وقد تضطر إلى الشجار دفاعًا عن مكانك. لا يتعرض لنا الشبان الأكبر سنًّا، فهم يسيطرون على أماكن انتظار السيارات في وسط المدينة. هكذا تجري الأمور، ولا أتذمر، أو أعترض.


أساعد الناس في ركن سياراتهم، ولا أغسلها إلا بإذنهم، فغالبًا ما يسبونك إذا غسلتها من دون إذن لأنك طفل، وهم كبار. هكذا تجري الأمور هنا. عليك التعامل دومًا مثل الكبار. عليك التحدث مثلهم؛ أي إن عليك النظر في أعيُن الكبار الذين تخاطبهم، والتحدث بصوت مرتفع، فإن تحدثت برقة سيشتمونك. كما عليك أن تكون نظيفًا؛ لأن الكبار دومًا نظيفون. وعليك ألا تتحدث إليهم كما تتحدث إلى الصبية مطلقًا، فلا يمكنني - مثلًا - التحدث إليهم كما أتحدث إلى "بافانا". عليَّ دائمًا استخدام "سيدي"، و"سيدتي"، أو أستخدام "من فضلك" و"شكرًا" إن أسعفتني الذاكرة، فهاتان الكلمتان لهما مفعول سحري. 


تلك بعض أسراري. ودائمًا ما أنال مبلغًا جيدًا إذا قرنتُ ذلك بابتسامة.
أعمل بجوار مطعم "صب واي" للوجبات السريعة. بقليل من التوفيق، يمكنني كسب ما يكفي لشراء نصف رغيف خبز أبيض مع رقائق الشيبسي والكولا، إلى جانب سيجارة حشيش من "ليزيل" التي تقيم أسفل الجسر.


لا أثق بأي من الكبار عدا "ليزيل"، فدائمًا ما تقترض منِّي المال وتعيده بعد أسبوع، كما تسمح لي برؤيتها عاريةً، ولا تكذب. فإنها ليست كسائر المقيمين أسفل الجسر. فهناك يقيم كل الأنذال، والعصابات، والسكارى ذوو الوجوه المتبلدة.

يا لها من مسكينة! أعرف كيف تكسب "ليزيل" المال، وليس ذلك بعمل يسير، لذا لا أسألها عنه مطلقًا. ألتزم الصمت متى أصيبت بكدمة أو قطع أسفل فمها، أتصرف كأن شيئًا لم يحدث. نتحدث عن موسيقى الهاوس الجنوب أفريقية، ونُخمِّن إن كان نوع الحشيش الذي سيحضره لها ذلك الرجل من أتباع الديانة الراستافارية بجودة "ذهب مالاوي" و"مبوندو"، أو نتحدث عن أي شيء آخر. تحتل "ليزيل" مكانة خاصة في قلبي، لكنها ليست رفيقتي؛ فهي على علاقة بفرد من عصابة "هارد ليفينجس".