الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

كف وحصان وعروسة|محمد كمال عن الطحان: الموت حرمه من تنفيذ معرضه الاستيعادي..صور

الفنان الراحل محمد
الفنان الراحل محمد الطحان

«يجمع معظم الباحثين أن تراث الأمم يعتمد دوما على الآلية التراكمية التى تصنع مزيجاً من المتواترات الزمنية والمتغيرات المكانية والثوابت العقائدية، بما يؤدى تاريخياً إلى صلصال خاص يُنحت من خلاله الملمح الشعبى، وقد يبدو هذا فى الإبداعات اللغوية والبصرية لفصيل ينهل من مخزونه الثقافى كبئر لا ينضب ، مثلما نرى فى المنجز الإبداعى للفنان الكبير محمد الطحان، والذى يشى بإخلاصه لتراثه منذ تخرجه عام 1973م وحتى رحيله قبل أيام» كان هذا وصف الفنان التشكيلي والناقد الفني دكتور محمد كمال عن الفنان الراحل محمد الطحان الذي توفي قبل أيام عن عمر ناهز 75 عاما.

وفي حوار خاص لـ «صدى البلد» يتحدث الناقد الفني عن مسيرة الطحان الذي استلهم فنه المميز من تراث مصر الشعبي، وتفاصيل علاقتهما الشخصية التي أصبحت صداقة لاحقا.

 

محمد الطحان والتراث الشعبي.. اسمان لم يفترقا ما سبب هذا الإلهام ؟

 بدأ الطحان مشواره مع الفن من قلب حى الجمالية بالقاهرة ، حيث ولد عام 1946م بين المساجد القديمة والأزقة والحوارى والبوابات الأثرية والحوانيت وموالد الأولياء بطقوسها الدينية البهيجة من دق الدفوف وحلقات الذكر وأشعار المديح النبوى ، إضافة إلى لهو الأطفال ومرح الكبار ، وكل هذا داخل سياج من البيوت العتيقة التى تشربت جدرانها بعرق وأنفاس الكادحين ممن يلهثون يومياً وراء لقمة العيش عبر إيمان صلب بمانح الأرزاق.

تصوير _ ألوان زيتية على قماش _ للفنان محمد الطحان
تصوير _ ألوان زيتية على قماش _ للفنان محمد الطحان

 

التراث الشعبي بشكل عام يكون شفاهيا أو مدونا، وكذلك قد يكون مرئيا أو مسموعا أو حتى ذا رائحة مثل رائحة البخور والتي تندرج ضمن قوائم التراث، وهناك فرق بين استلهام التراث عن بعد من التليفزيون أو الإذاعة أو الجامعة أو الشارع والنشأة في قلب بيئة تراثية، ليصبح التراث مثل عباءة يرتديها وهذا ما اتبعه الفنان محمد الطحان الذي نشأ في حي الجمالية.

طباعة ليثوجراف _ 35سم × 45سم _ 2004م _ للفنان محمد الطحان
طباعة ليثوجراف _ 35سم × 45سم _ 2004م _ للفنان محمد الطحان

 

كيف عبر عن هذا التراث الغني  في أعماله ؟

 نجد أعمال الفنان الأولى تميل إلى تصوير مرئيات تلك الحضّانة البصرية الغنية من خلال واقعية تأثيرية تتعاطف مع البنائين والشيالين وتجار الأرصفة والباعة الجائلين ولاعبى السيرك والتحطيب والنقرزان والأكروبات وراكبى الخيل وراقصى التنورة وغيرهم ممن يرتمون بين ذراعى هذه البنية الشعبية ذات البعدين الإجتماعى والعقائدى.

ونعثر فى عشقه لذلك النسيج البيئى على تفسير للخطوط الحادة التى تحد حواف أشكال هذه المرحلة من ضحايا الشقاء اليومى المستلقين على ظهورهم فى إنهاك ووهن بجوار البراميل وعربات اليد وصناديق القمامة ، وهؤلاء العتالين الذين تنحنى ظهورهم بفعل الأثقال ، ثم تستقيم بروافع الكبرياء والعفة .. وتحت تأثير هذا المناخ الشعبى الثرى يتحول الطحان إلى مرحلة تالية أكثر نضجاً يطيح فيها بتفاصيل المشهد ويلجأ إلى اختزال وتسطيح الصورة فى مساحات متجاورة بواقعية تجريدية تتأرجح بين المرئى وباطنه المستتر.

تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال  (3)
تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال (3)

 

في رأيك كيف شكلت هذه البيئة عاملا في فنه المميز ؟

النشأة بالجمالية في القاهرة القديمة في وسط المباني القديمة، والمساجد، والكنائس، والترعرع وسط الباعة الجائلين وخان الخليلي ورائحة البخور وعرق الكادحين، وهذه المناطق بما فيها من ناس تحت خط الفقر وطبقات شعبية كانت ملهمة جدا بالنسبة له.

ويبدو أنه قد انصهر روحياً مع تراثه بكل تجلياته ليعيد إنتاجه فى هيئة صلصال مصرى الهوية يشكّل به بناءً متعاشق عبر عدة تقنيات ووسائل بين رسم وتصوير وحفر وخزف، وقد نستجلى هذا فى ملامسه التصويرية الخشنة وألوانه الترابية والطينية التى يجسدها الأوكر والرمادى والبنى والأسود.

تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال  (4)
تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال (4)

 

فى تأكيد للعمق الزمنى داخل العمل ، وتبعاً لهذا نجد الفنان متحررا من أسر فيزيقية المرئى ليصبح قادراً على إعادة صياغة المشهد الشعبى عند بقعة مضيئة على منحنى غزل الصورة يبزغ فيها الرمز على الصعيدين الذهنى والروحى، بعدما يمتزج الدينى والتاريخى والبيئى لديه فى بوتقة الوعى الجمعي، إضافة إلى زخارف ونقوش من مربعات ومثلثات ودوائر وكتابات ورموز شعبية تحمل إيماءات دينية وسحرية وتعويذية مثل الكف والعين والعروسة وتيمات التفاؤل وجلب الحظ ولفظ الجلالة " ألله " وتهليلة زيارة البيت المعمور " حج مبرور وذنب مغفور " ، وهى التبركات التى تحتفى بها بعض حوائط المنازل فى المناطق الشعبية ومنها حى الجمالية الذى نشأ فيه الفنان محمد الطحان.

تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال  (5)
تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال (5)

 

وكيف عبر عنها عبر فنونه المتعددة من رسم ونحت؟

استوحى الطحان التراث من بيئته مثل التنورة وراقصي التنورة والراقصين بالخيول ولوحات تضم الكادحين المستلقين على ظهورهم من شدة التعب، و"الشيالين" حتى أصبح التراث جزءا من دمه وروحه وتخطى لديه الفن التشكيلي حيز الفن الواقعي ليصل للحيز التجريبي التعبيري.

 

تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال  (6)
تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال (6)

ماذا عن تركيبة العمل الخاصة به ؟

يظهر في تركيبة العمل الخاصة به كل ما يترجمه من رموز مستوحاة من بيئته، مثل الهلال والنجمة، كذلك عبر عن المرأة المصرية بكل تجليات الصبر لديها، والرجل المكافح من خلل رسم الجسد الإنساني يُطاح به، وأصبح العمل عبارة عن جدار متماسك هو البطل الخاص به.

تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال  (7)
تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال (7)

 

الفن الشعبي والدراسة الأكاديمية معا.. هل هي سر طابعه المميز ؟

نعم، إذ استطاع الفنان محمد الطحان الجمع بين صفات الفنان الأكاديمي وبالفطرة، لأنخ تخرج في معهد ليوناردو دافنشي عام 1973، الذي غلق قبل 9 سنوات، وبعد تخرجه أصبح فنانا ذا مرجعية أكاديمية ودراسية، ولكنه تطرق إلى منطقة مهمة يندر أن يجسدها فنان أكاديمي وهي الحالة الشعبية.

وعبر الطحان عن الحالة الشعبية في العديد من أعماله، مثل التقاط تعبيرات الحج على الجدران مثل «حج مبرور وذنب مغفور» وحالة التبرك التي كان يجسدها الفن الشعبي الفطري للرسم على جدران البيوت والتي تميل للجانب الديني، وكان يجسدها ولكن بوعي أكاديمي لهذا تميزت بمذاق فني خاص يجمع بين العميق والبسيط لمعمار تصويري شديد الخفة والرشاقة .

 

تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال  (8)
تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال (8)

الحالة الشعبية.. كيف تذوقت الطبقات المختلفة فنون الطحان ؟

جسد الطحان تنوع مستويات الذائقة العامة بدرجاتها، مثقفة ونصف مثقفة وتلقائية وبسيطة جدا، وكان يستطيع الاستيلاء على كل المستويات، وباختلاف المستوى للمشاهد، كل من كان يرى لوحته كان ينجذب إليها بعيدا عن كل التعقيدات، وظل هكذا حتى المكالمة الأخيرة بيننا.

تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال  (9)
تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال (9)

 

وما كواليس المكالمة الأخيرة بينكما قبل رحيله ؟

كان من المقرر أن أكتب المقدمة عن معرض محمد الطحان الاستيعادي الذي كان من المقرر إقامته في قاعة "أفق" ومديرها إيهاب اللبان، وتتميز القاعة باتباع فلسفة محددة وإقامة معارض لفنانين ذوي تاريخ فني ممتد.

تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال  (11)
تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال (11)

 

هل هذه كانت المرة الأولى التي تكتب عنه فيها ؟

لا، ففي عام 2006 نشرت دراسة نقدية عنه بمناسبة بلوغه سن الستين، والمعرض الاستيعادي الذي كان من المقرر عقده بمناسبة بلوغه سن معينة ولكنه مات في عامه الخامس والسبعين قبل عقده.

تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال  (12)
تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال (12)

 

وما تقييمك لمسيرة الفنان الراحل ؟

لا يستطيع أحد تقييم محمد الطحان بشكل مرحلي إذ يتم تقييم مسيرته كاملة، خاصة أن السن لم تشكل عائقا له، وبالمقارنة الزمنية كانت أعماله قبل 15 عاما بنفس قوة أعماله قبل رحيله بأسابيع، وفي حياته الخاصة كان يشبه أعماله.

تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال  (13)
تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال (13)

 

أستاذ أصبح لاحقا صديقا.. حدثنا عن علاقتك الشخصية بفنان التراث الشعبي  ..

أذكر في بداياتي أنه كان فنانا نشطا جدا في وكالة الغوري، وكان دائما ما يشجع الشباب، وكان يعمل بمبدأ "اعمل الخير وارميه البحر"، وهذا ما لمسته خلال علاقتي الشخصية به التي بدأت في أواخر الثمانينيات وكنت حينها في بداياتي الفنية، وكان قد أقيم صالون الجمعية الأهلية التاسع، وعندما ذهبت للمشاركة في الصالون لم أكن ذا اسم فني بعد، وكانت لجنة التحكيم لجنة محايدة وعادلة.

تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال  (14)
تصوير - ألوان زيتية للفنان محمد الطحان من أرشيف الفنان محمد كمال (14)

 

وبعد مرور الأعمال الفنية على لجنة التحكيم تفاجأت بعرض أعمالي في أبرز مكان في القاعة بجوار أعمال أبرز الفنانين رغم صغر سني، وأقيم المعرض في قاعة "النيل" مكان قصر الفنون حاليا، وكان حينها أستاذ محمد الطحان عضوا في الجمعية وعضوا في جمعية فناني الغوري، وبعد انتهاء المعرض تفاجأت بأنه أخذ لوحاتي لعرضها لديه دون استئذاني أو وجود صلة به، وكان هذا ملمحا رئيسيا في شخصيته لأنه تصرف أبوي عفوي رغم وجود فارق عمري يقدر بعشرين عاما، وذكرته بهذا الموقف قبل وفاته في آخر مكالمة ولكنه لم يتذكر وقال لي "مش فاكره لكن مبسوط إن انت فاكر".

قطعة خزفية -للفنان محمد الطحان
قطعة خزفية -للفنان محمد الطحان