الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ما كان ضروريًّا أصبح حتمية وجودية

الدكتور محمود جلال
الدكتور محمود جلال

سبق وعرضت في عام 2019 من خلال مجموعة مقالات "في سبيل مشروع قومي" أهم التحديات التي تواجهها مصر، من محدودية مصادر المياه، وزيادة عدد السكان في ظل ثبات حصة مصر من مياه النيل، بل وتأثر هذه الحصة بمشكلة ملء سد النهضة الإثيوبي، والعجز في إنتاج الأعلاف واللحوم وإنفاق مليارات الدولارات سنويا على الاستيراد لسد هذا العجز، وتأثيرات التغيرات المناخية على الزراعات في مصر.

وقدمت علاجًا فعالًا وسبيلًا سهلًا لمواجهة هذه التحديات، يتمثل في التوسع في زراعة نبات التين الشوكي في صحارى مصر واستخدام مخلفاته، خاصة الألواح في إنتاج الأعلاف للدواجن والحيوانات بجميع أنواعها، وإنتاج منتجات غذائية متنوعة للإنسان، وإقامة العديد من الصناعات، منها مستحضرات التجميل والمستحضرات الدوائية، وإنتاج الوقود الحيوي.  

وذلك لتأمين مصدر دائم للغذاء للإنسان والحيوان والطاقة من هذا النبات بدون الاعتماد على نهر النيل، والذي أسمته منظمة الفاو غذاء المستقبل والذهب الأخضر، نظرا لإنتاجه السريع والغزير من الألواح عاليه المحتوى من البروتين والكربوهيدرات ومختلف المعادن والأملاح والفيتامينات ومضادات الأكسدة، وطعمه المقبول للإنسان والحيوان، مما يجعله يمثل صمام أمان وبعدًا استراتيجيا في التحديات التي تواجهها مصر.

والحلول التي تم عرضها كانت بناءً على مراجعات لتجارب الدول الأخرى، وتجارب موسعة تم إجراؤها لتغذية الطيور والماشية بأعلاف ألواح نبات الشوكي كأول تجربة رائدة لذلك في مصر، كما تم أيضًا إجراء العديد من التجارب الناجحة لإنتاج المنتجات الغذائية من الألواح مثل المخبوزات والمأكولات، والتي تميزت بالطعم المقبول والقيمة الغذائية العالية. 

وتم شرح كيفية تنفيذ المشروع، خاصة في محافظة أسوان، والمكاسب التي سيحققها الاقتصاد القومي، فيكفي أن نعلم أنه بخلاف تكلفة تجهيز الأرض المراد زراعتها، يصل إجمالي التكلفة السنوية لزراعة الفدان من الذرة الرفيعة إلى 33 ألف جنيه واستهلاك 2000 متر مكعب من المياه، وفي المقابل تبلغ تكلفة زراعة الفدان من التين الشوكي 4 آلاف جنيه، ويستهلك فقط 400 متر مكعب من المياه، كما يتحمل نسبة ملوحة للمياه يمكن أن تصل إلى 3000 ppm في حين أن المحاصيل الحقلية لا تجود في مثل هذه الدرجة من الملوحة.

وتم عرض تفاصيل المشاريع الزراعية والصناعية المختلفة القائمة بالعديد من بلدن العالم مثل المكسيك والبرازيل والمغرب على نبات التين الشوكي والعائدات منها، وذلك حتى تكون نقطة البداية لأي مشروع سوف نقوم به في مصر.

هذا ما قدمته في مقالاتي في 2019 تجاوبآ مع التحديات الاستراتيجية والاقتصادية الموجودة، والتي ما زالت قائمة حتى اليوم.

وليتنا بدأنا التصدي لها في حينها طبقًا لما رسمته في هذه المقالات، فالتحديات التي استجدت في الآونة الأخيرة تجعل ما كان مشروعًا للتنمية أو لرفع مستوى المعيشة لمزيد من الرفاهية الآن أصبح "حتمية وجودية".

فما أصاب العالم في 2020 من جائحة فيروس كورونا كشف عورات كثيرة في النظام الاقتصادي العالمي، وأسقط بديهيات كثيرة، قد نتمكن من دراستها بالتفصيل في مقالات لاحقة، لكن نستعرض أهمها بالنسبة لنا: 

 - ارتباك حركة النقل البحري والجوي على مستوى العالم ووصلت إلى حالة من شبه التوقف بصورة لم يعرفها العالم في زمن السلم، الأمر الذي أدى إلى مضاعفة تكاليف الشحن أضعافًا مضاعفة، وهذا الأمر أدى إلى زيادة عبء استيراد الأغذية والأعلاف بنسبة كبيرة. 

- بروز حقيقة ما عرضنا له مقدمًا في مقالاتنا من أن تفشي هذه الجائحة ناتج عن تدهور المناعة لدى البشر، والتي من أهم أسبابها الاستخدام المفرط للمبيدات والتي يمكن تحاشيها - جزئيًّا - بالاستخدام الواسع لنبات التين الشوكي. 

ثم جاءت الطامة الكبرى: 

الصراع الروسي الأوكراني، والدولتان هما أكبر مصدر في العالم للقمح والذرة وزيوت الطعام، والذي ترتب عليه قطع طرق النقل البحري لهاتين الدولتين (ولو جزئيًّا)، فضلًا عن مضاعفة أسعار النولون والتأمين (كونها مناطق حرب)، كما سارعت الدول التي تمتلك فائضًا في الحبوب (مثل الهند) إلى وقف التصدير تحسبًا للظروف.

كذلك فقد أثبتت تجارب السنوات السابقة أنه ورغم كل المشروعات الضخمة التي قامت بها الدولة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في أهم احتياجاتنا وهو القمح، فإنه من المتعذر الوصول إلى هذا الاكتفاء، وهذه حقيقة مؤلمة. 

إذن، أجدد ما قلته مسبقًا: "ما كان ضروريًّا أصبح حتمية وجودية".

فإما أن تنتج ما يقيم أودك أو تموت جوعًا، هذه حقيقة مريرة تواجهها العديد من دول العالم ونحن منها مع العديد من دول أفريقيا. 

فالموت جوعًا ليس بغريب، فقد مات عشرات الملايين في الصين جوعًا في حقبة الثورة الثقافية، وعندما طورت الصين من نفسها أصبحت تصدر الطعام حاليًا، كما مات الملايين في كوريا الشمالية في السنوات القريبة الماضية.

قد لا يكون الموت جوعًا قائمًا في هذه اللحظة، لكنه من الممكن جداً أن يحدث في أي وقت، ولا يجب أن تكون سياساتنا الاستراتيجية قائمة على رد الفعل، ولكن يجب أن تكون استباقية